يقدم مهرجان بغداد الدولي للمسرح أعمالا توفر نظرة على مسارح مختلفة، تتنوع نوعا وكيفا، ولها طرحها واشتغالها، وقد اخترنا أن نقرأ عملين هما التونسي “عائشة 13” والأوكراني “كاليجولا”، نظرا إلى الاشتغالات المختلفة التي تتوفر في كل منهما، وتميزهما عن غيرهما من العروض. تتواصل عروض مهرجان بغداد الدولي للمسرح مقدمة أعمالا مختلفة خاصة من الكوريغرافيا التي وضعها المهرجان في التنافس جنبا إلى جنب مع الأعمال القائمة على الحوار، فيما غابت المونودراما. ومن بين أعمال المهرجان التي لفتت الانتباه وأثارت الجدل المسرحية التونسية “عائشة 13” للمخرج سامي النصري والمسرحية الأوكرانية “كاليجولا” للمخرج الأوكراني ألكسندر كافشون. مسرح الدقة "كاليجولا" عوالم مسرحية مبنية بدقة عالية لا حركات زائدة أو أصوات أو افتعالات كأننا أمام وصفة بمقادير مضبوطة “كاليجولا” التي كتبها ألبير كامو في ثلاثينات القرن الماضي تعامل معها المخرج الأوكراني بطريقة مغايرة، في السينوغرافيا وأداء الشخصيات والتصورات والمآلات رغم أنه حافظ على النص الأصلي بشخصياته وحواراته، لكن اللعب كان في استنطاق النص وتصوره بطرق مغايرة تماما، طرق ذهبت إلى السخرية دون أن تدخل منطقة الضحك وإلى الكشف دون أن تدخل منطقة الألم. إننا إزاء عوالم مبنية بدقة عالية للغاية، لا حركات زائدة أو أصوات أو افتعالات، كأننا أمام وصفة بمقادير مضبوطة، ولكن وهذا الأهم، دون اصطناع. يقول الأكاديمي التونسي محمد المديوني حول النص الذي انطلق منه العرض “موت أخت كاليجولا بريسلا وعشيقته، كشف أنه يعيش في عالم لا يرضيه، بناء على تلك الصدمة صار مهووسا بتحقيق المستحيل، سعي تسبب في احتقاره لغيره”. ويرى أنه في هذه الحالة تنزلت صورة من ممارسة كاليجولا للحرية في شكل آخر يضع موضع سؤال بين الخير والشر، فساوى بين كل الأشياء. ويستذكر المديوني ما قاله كامو إن كانت حقيقة كاليجولا التمرد على القدر فإن عيبه متمثل في عدم اعتبار البشر. مشددا على أن كاليجولا هو العيب الأكثر بشرية والأكثر هولا ومأساوية. أما في ما يتعلق بالمسرحية التي شاهدها جمهور المسرح الوطني ببغداد، فيلفت المديوني إلى أن ما ميزها هو الأداء التمثيلي الدقيق للغاية، يقول “نحن إزاء الباروديا معالجة تقوم على المحاكاة الساخرة لأثر فني جاد، وهي أقرب إلى المعارضات الشعرية”. PreviousNext ويبين أن المخرج وظف كل مكونات الفرجة المسرحية لذلك، ونجح المخرج في إنجاز عمل متكامل ومتآلف، وصلته بكامو هي تحريف مقصود دون المساس بالنص الأصلي. نجد الشخصيات نفسها مما طرحها كامو سينيكتاس، هيليكون، موسياس، شيريا، سيبيو، سيسونيا، لكن المخرج وإن حافط على أطرها بين الخادم والمطيع والغادر، فإنه جعل لها تأطيرا آخر، خاصة من حيث اللباس، لباس المجانين، لبعضهم، لينتهي العمل بأن يلبسوا بدلة الأطباء وكأنهم مشخصون لحالة الطاغية والعبد. فعلا الأداء التمثيلي في الحركة والصوت وتجسيد الحالات الانفعالية كان مرتبا بطريقة كبيرة، لم يخرج رغم تجريبية العمل عن الأداء الكلاسيكي في بعض الشخصيات، والذي كان مقصودا، من باب السخرية من الشخصيات ذاتها، بينما اتخد حركة أكثر حماسا مع كاليجولا بالذات، الذي يمكننا تشبيهه، إن جاز لنا ذلك ورغم اختلاف المنشأ، بالجوكر، الشخصية السينمائية الشهيرة التي جسدتها أفلام كثيرة، وخاصة الفيلم الأخير من بطولة خواكين فينيكس. اقرأ أيضاً: مسرحيون عرب يدعون من بغداد إلى تأسيس سوق المسرح العربي اقرأ أيضاً: مسرحيون عرب يدعون من بغداد إلى تأسيس سوق المسرح العربي يحيلنا الأداء القوي للممثل الذي قام بدور كاليجولا إلى أداء خواكين فينيكس في دور الجوكر، الفيلم الذي أبدع فيه تلك الضحكة، ضحكة الشر الممزوج بالألم والانتقام الممزوج بالحزن والقلق الممزوج بالقوة. وفعلا أراد الممثل تأدية تلك الضحكة بشكل ما. اللعب الدقيق يخلق السلاسة، والسينوغرافيا التي اختارها المخرج من خلال إحاطة الركح في مقدمته بمرتبات نوم هوائية تحجب ما وراءها، من بينها تتسلل الشخصيات بصعوبة من الخلفية، أو من فوقها، بينما صوت يتكرر مع اهتزازت الشخصيات التي تقف أحيانا أعلى على المرتبات، هو صوت أزيز سرير، يحاكي بشكل ما صوت السرير أثناء اهتزازات الجماع. الملابس التي تخرج الشخصيات من طابعها النصي إلى شخصيات أخرى، من المجانين والمخبولين والخارجين من أماكن غريبة يقتلون مرارا بالرصاص بالطعن بالسكاكين بالحقن ولكنهم يعودون إلى الحياة، وهذا خلق نوعا ناجعا من التغريب مع العمل، فلم يتماه الجمهور مع الأحداث أو حتى النص، الذي وضعت له ترجمة في الأعلى، وترك المتلقي يتابع ما يحدث وما يقال، ويتابع الطاغية في هوسه وضعفه وبطشه. الطاغية هنا في هذا العرض متجرد من كل أسطورية أو قشور، إنه ذات ضعيفة متقلبة تحتقر غيرها لأنها تحتقر نفسها، ومن يصنعه في حقيقة الأمر هم العبيد ممن يوالونه، والذين انقلبوا عليه في النهاية. في النص الأصلي يقتلونه، في المسرحية يلبسونه قناع المهرج وبدلة المجنون، ليعود في الختام ويقول بالعربية “أنا حي” في إشارة إلى استمرار الطاغية في عبيده وأتباعه، هؤلاء الذين لن يتوقفوا عن خلق طاغية آخر، وربما يكون أكثر عنفا وجنونا. مصحة رمزية المسكوت عنه يثير الجدل دائما (مسرحية "عائشة 13") المسكوت عنه يثير الجدل دائما (مسرحية "عائشة 13") “عائشة 13” كانت مسرحية إشكالية، ربما نظرا إلى العالم الذي تقتحمه، الكثيرون عابوا على مخرجها سامي النصري كبت طاقات ممثليه نظرا إلى الإضاءة الناقصة أو الدرج الكبير الذي وضع كسينوغرافيا، لكن أرى العكس تماما. رغم أن الظلمة كانت بسبب ضعف تقني بالأساس، فإنها خدمت العرض وهو يدخل بنا في دهاليز النفوس البشرية، ويكشف صراعاتها من خلال قصة المصحة. هي حكاية مصحة نفسية يشارف أصحابها على الإفلاس، بينما تفلت أمور إدارتها من أيديهم، ويفشلون في افتكاك إقرار من عائشة لتوفير سيولة لازمة لبقائها، بينما عائشة نفسها مريضة محتجزة في المصحة، التي تتعرض مريضاتها للتعنيف والترهيب والقمع، وتسير الأمور إلى ذروة تعقيدها بانفضاح أمر المصحة بفيديو تنشره عائشة بعد وفاة إحدى المريضات، ورغم كل الشحنة العنيفة تنتهي المسرحية بالحب، بكلمة أحبك. بعيدا عن التأويلات التي ينجح العرض في بثها برمزياته الكثيرة وحكاياته المتداخلة وشخصياته متعددة الطبقات من الإداري إلى الطبيب إلى عاملة التنظيف إلى المريضات والممرض، فإن السلم أو المدرج الكبير الذي يتوسط الخشبة، واللعب خلفه وأمامه وبجانبه وأحيانا فوقه، كان دلالة لا يمكن أن تتجاوزها العين، قد نراه في الطبقية أو في تدرجات الحياة أو نوعا من التراكم أو الهرمية التي تحكم المجتمعات البشرية. ورغم أن العرض ينطلق من واقع تونسي صرف، فإنه مفتوح على فضاءات كثيرة، حيث النفوس المعذبة بفعل سلطة المال وسوء الإدارة والفساد، وكلها عوامل تحول المواطنين إلى مرضى مضطهدين. بقي كان يمكن اللعب أكثر على المدرج، والاستغناء عن حبكات ثانوية، رغم أهمية بعضها مثل إقحام ظاهرة الإرهاب والعائدات من بؤر التوتر، وربما التنحيف قد يفيد أكثر في هكذا عروض تذهب بالمسرح أبعد إلى أصوله، إلى اللعب المفخم، والطرح القوي، وإثارة الجدل والتساؤل.
مشاركة :