القاهرة: «الخليج» نال ألبير كامو جائزة نوبل عام 1957 في الآداب «لكشفه عن الأزمات التي يتعرض لها ضمير البشر في أيامنا هذه»، وقد مارس كامو مختلف أجناس الإبداع وشتى فنون الكتابة، ومنها الكتابة المسرحية، التي بدأها منذ وقت مبكر في حياته، ففي الثانية والعشرين من عمره، كوّن فرقة من الهواة أسماها «مسرح العمل» ثم أصبح رائداً لفرقة أخرى، أهدى إليها مسرحيته «سوء التفاهم» وكان قد بدأ كتاباته للمسرح بمسرحية حررها مع بعض الأصدقاء، وأهداها إلى عمال المناجم الإسبان الذين ماتوا في مدينة «أوفييدو» عام 1934 ثم أعد للمسرح عدة مسرحيات مأخوذة عن روايات عالمية مهمة. لم تكن موهبة كامو ثانوية أو عرضية، وكان يقول إنه يكنّ حباً عميقاً للمسرح لأنه عمل جماعي، وقد عاد إلى المسرح في كل مرحلة من مراحل حياته القصيرة، عاد إليه مؤلفاً تارة، ومخرجاً تارة، وممثلاً في بعض الأحيان، وكانت آخر صلة له بالمسرح عام 1959 حين طلب إليه أندريه مالرو أن يدير مسرحاً تجريبياً في باريس، وكان يهتم بالمسرح قبل القصة، فكتب مسرحية «كاليجولا» قبل رواية «الغريب» وكان أسلوبه يتسم بالتركيز والوضوح، وفلسفته القلقة تؤدي دائماً إلى مأساة. ما رأي كامو في المسرح؟ وما الدور الذي يجب أن يلعبه في الحياة الحديثة؟ أدلى كامو بحديث مهم إلى التليفزيون الفرنسي في 12 مايو 1959 وقال: «المسرح في نظري فن سامٍ للغاية، فهو أرفع الألوان الأدبية، وأكثرها عالمية، كما أنه مكمن الحرية والحقيقة والجلال، إنه صورة جميلة لمجتمع المستقبل، بمعنى أنه يربط بين الممثلين والمؤلفين والمخرجين، ومع ذلك يبقى كل منهم حراً على طريقته أو يكاد، إنه موطن الحقيقة لا الوهم، فعلى خشبته نرى خبايا النفوس وحقيقة الإنسان الخفية، أكثر مما نراها في المدينة، إنه صراع يحيا بالحركة والتحرك، إنه أخيراً التزام». لم يكن المسرح بالنسبة لكامو صحراء يهرب إليها من الناس، كما يتصور - خطأ - كثير من النقاد، كان يكتب للمسرح لينغمس في الحياة، لا ليبتعد عنها، ففي مقدمة الطبعة الأمريكية لمؤلفاته المسرحية يقول: «يبدو لي أنه لا وجود لمسرح حقيقي إلا بالكلام والأسلوب، ولا وجود لعمل مسرحي إلا بالتفكير في المصير الإنساني كله، بما فيه من بساطة وجلال، كما هو الحال في مسرحنا الكلاسيكي أو المأساة اليونانية» وقد حاول كامو أن يخلق أشكالاً درامية جديدة، مثل المأساة الميتافيزيقية، وهي مأساة مركزة عميقة، تعالج بلا مبالغة القضايا التي تثقل ضمير الإنسان في القرن العشرين. ترسم مسرحيات كامو خطاً موازياً لقصصه ومقالاته، وتعكس تطوراً فكرياً متصلاً بالتجربة والحياة، وإذا أعدنا أعمال كامو إلى الوقت الذي كتبت فيه، لا الوقت الذي نشرت أو مثلت فيه، وقفنا على توافق زمني جدير بالاعتبار، فمسرحيتا «كاليجولا» و«سوء التفاهم» تعبران عن ميتافيزيقا اللامعقول، في الوقت الذي كتب فيه «الغريب» و«أسطورة سيزيف» ومسرحيتا «العادلون» و«حالة الحصار» تعبران عن ميتافيزيقا التمرد، وذلك بعد روايته «الطاعون» بقليل، وقبيل صدور «الإنسان المتمرد» وبالتالي يمكن تقسيم إنتاج كامو الأدبي إلى مرحلتين: مرحلة اللامعقول ومرحلة التمرد. حادثة جاء ذكر مسرحية «سوء التفاهم» التي كتبها كامو عام 1943 وترجمتها إلى العربية د. سامية أسعد، في رواية «الغريب» وذلك في شكل حادثة قرأ عنها البطل «ميرسو» في قصاصة من ورق الجرائد وجدها في زنزانته: «وجدت بين الفراش وألواح السرير قصاصة قديمة من ورق الجرائد، صفراء شفافة، تكاد تلتصق بالقماش، كانت تروي حادثة تنقصها البداية، لكن لابد أن تشيكوسلوفاكيا كانت مسرحاً لها، رحل رجل من بلدته في تشيكوسلوفاكيا طلباً للثروة، وبعد خمسة وعشرين عاماً عاد، وقد أثري ومعه زوجته وطفله، وكانت أمه وأخته تديران فندقاً في البلدة التي ولد فيها، ولكي يفاجئهما ترك زوجته وابنه في مكان آخر، وجاء لأمه، لكنها لم تعرفه عندما دخل، فخطرت له على سبيل المزاح، فكرة استئجار غرفة في الفندق، أظهر لأمه وأخته نقوده، وفي المساء قتلتاه بضربات مطرقة، طمعاً في ماله، وألقيتا بجثته في الترعة، وفي الصباح جاءت زوجته وكشفت عن غير قصد عن شخصية المسافر، فشنقت الأم نفسها، وألقت الأخت بنفسها في البئر». أراد كامو أن ينقل إلى خشبة المسرح رؤياه لعالم يمزقه كل ما يتنافى والطبيعة: قتل الأم لابنها، وقتل الأخت لأخيها، لم يكن هذا الحلم وليد المصادفة، ذلك أنه المعنى الحقيقي للمأساة القديمة، التي عمل كامو على إحيائها، ومن المؤكد أن «سوء التفاهم» مسرحية قاتمة كتبها كامو في بلد محاصر محتل، ويحاول من خلالها معالجة موضوع الصدفة، في قالب عصري، وفي رسالة من رسائله كتب: «إن شقاء البشر يتولد عن عدم اتخاذهم لغة بسيطة، لو أن بطل سوء التفاهم قال: «أنا ابنك» لكان الحوار ممكناً، ولما كانت المأساة، مادامت قمة كل مأساة تكمن في صميم فكرة البطل، ففي الواقع المأساة دائماً سوء تفاهم بالمعنى الحقيقي للكلمة، أو بعبارة أكثر شمولاً صمم..
مشاركة :