الْـفَهْمُ الإنْسَانيُّ الْـمُشْتَرَكُ (4) - أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

  • 4/23/2016
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

قال الدكتور محمد فتحي الشِّنِّيْطِي ص443: ((أما فكرةُ الجوهر فهي التي يُسْقَطُ في يد (لوك) إزاءَها؛ فإذا فحصنا فِكْرتَنا عن الجواد أو الإنسان أو قطعة الذهب لا مَعْهُوْدَ للذهب؛ فالصوابُ: قِطْعَةِ من ذهب : ففي وُسِعْنا أنْ نحلُّ هذه الفكرةَ إلى عدد من الأفكار البسيطة مثلِ الامتدادِ والشكل والصلابة والوزن واللون مجتمعة؛ ولكنْ مِن ملاحظةِ ما شاع بين الفلاسفة في عصر (لوك)، وقبله: (مِن أنَّ ثَمَّةَ جوهراً مُعَيَّناً تلتقي عنده هذه الصفات، أو تقيم فيه وتنجم عنه).. يتساءل (لوك): لئن كان في وسعنا أنْ نُشكِّل فكرةً واضحة عن الصفات المختلفة: فهل نستطيع أنْ نشكل فكرة واضحة، أو نعطي تفسيراً معقولاً للجوهر؟؟.. ويجيب صراحة بالسلب: (؛ ففكرة هذا الجوهر فكرةً مُشَوِّشِةٌ مضطربة تنتمي إليها الصفات وتقيم فيها).. إنَّ اِسمَ جوهرٍ يدلُّ على سَنَدٍ مع أننا لا نملك يقيناً أية [الصواب: أيَّ] فكرةٍ واضحة ومتميزة [الصواب بدون واو قبلها] عن ذلك الشيءِ الذي نفترض كونه سنداً.. إنَّ من يتساءل عن كُنْهِ الجوهر: لن يكون أسْعَدَ حالاً من الهنديِّ الذي حين [لا داعي لكلمة (حين)] زعم أنَّ العالَمَ يحمله فيلٌ ضخم.. سئل ومالذي يسند الفيل؟.. فأجاب: (بأنَّه سلحفاة ضخمة)؛ فحين سئل من جديد: ومالذي يسند السلحفاة؟.. أجاب: (إنه شيءٍ ما لا يعرفه).. إن اللجوء إلى (شيءٍ ما) معناه أننا نتحدث كالأطفال حين يُسْأَلُون عن معنى هذا الشيءِ الذي لا يعرفونه: يجيبون بأنه شيءٌ ما، ولكنهم لا يعرفونه؛ ومن ثم يرى (لوك): أنَّ التمييز بين الجوهر والضروب أو الأعراض تمييزٌ لا نَحْسِم فيه.. ويبدو أنَّ ثمة نبرةَ شكٍّ هنا عند (لوك) نستشفها من خلال تحليله.. ويوصى (لوك) أولئك الذين يُسْرِفون في الحديث عن الجوهر: (أنْ ينظروا ما إذا كانوا في استخدامهم لها يُطبِّقُوْنها على (الله اللامتناهي) تَطْبيقَها على الروح المتناهي والجسمِ بمعنى واحد.. وما إذا كانت تُـمثِّل ذات [نَفْسَ] الفكرة عندما تُسَمَّى تلك الموجوداتُ المختلفةُ غايةَ الاختلاف جواهرَ).. وهو يرى أنَّ كلمة جوهر حين تدل على المادة وعلى الذهن - متناهياً وغير متناهٍ - تُعَبِّر في كلٍّ عن معنى مختلفٍ تمامَ الاختلاف.. ولعل مما يجعل الأمر واضحاً في المناقشات الفلسفية على الأقل بين أولئك الذين يُسلِّمون بثنائية المادة والذهن: أنْ يُسْتعاض عن كلمة جوهر حين تُطبَّق على الموضوعات غير الجسمية بكلمة (ذهن)؛ وحين [الصواب بدون واوٍ] تطبق على الموضوعات الجسمية بكلمة (مادة).. وتأسيساً على ذلك يتناول (لوك) الروحَ اللامادي والجسم؛ فهو يرى: أنْ ليس ثمة صُعوبةٌ في فكرة روحٍ لا ماديٍّ، كما أنه ليس ثمةَ مشقَّةٌ في فكرة الجسم، وليس ثمة بالتالي تناقضما في كون الفكر يمكن أن يوجد منفصلاً ومستقلاً عن الصلابة؛ كما أنه ليس ثمة تناقضٌ في كونِ الصلابة يمكن أن توجد منفصلة ومستقلة [الصواب: بدون واوٍ قَبْلَ مُسْتَقِلَّة] عن الفكر؛ فهما معاً فكرتان بسيطتان مستقلة كلٌّ [الأوضح: كلُّ واحدةٍ] منهما عن الأخرى.. وما دامت لدينا فكرتان بسيطتان عن الفكر والصلابة: فلسنا ندري لِـمَ لا نسلِّم بوجود شيءٍ مفكِّرٍ بدون صلابة كما نُسلِّمُ بوجود شيءٍ بدون تفكير.. أعني المادَّةَ ما دام ليس من العسير أنْ نتصور كيف أنَّ الفكر يمكن أنْ يوجد بدون المادةِ، والمادةَ يمكن أنْ توجد بدون الفكر.. ويختتم (لوك) الباب الثاني بفصل قصير؛ ولكنه مثير للاهتمام عن تداعي الأفكار؛ وقد يكون (لوك) أولَّ من استخدم هذا الاصطلاح وهو يعني به أنَّ لبعض الأفكار ارتباطاً طبيعياً، وبعضَ الأفكارِ الأخرى تلتقي في أذهان الناس بحيث [الصواب مِن حيثُ] لا تكادُ فكرةٌ تَعِنُّ للذهن حتى تتوارد سائر الأفكار المرتبطة بها؛ ومن الأمثلة التي يسوقها على ذلك: أنَّ بعض الأطفال يقترن عندهم إحساسُهم بالألم ببعض الكتب بحيث [الصوابُ: مِن حيثُ] يصبح الكتاب مكروهاً، لهم وتغدو القراءة [الأفصح: قِراأَتُه] أيضاً عذاباً لا يطاق)). قال أبو عبدالرحمن: ههنا وقفات: الوقْفَةُ الأولى: أنَّ حُكْمُنا الذي هو فِكْرُنا عن الجواد والإنسان وقطعةٍ من ذهب: إحساسٌ بسيطٌ مِن خارجِ النفسِ كالامتداد نُدْرِكُه بالرُّؤية؛ وهكذا الشَّكْلُ؛ وأما الصلابَةُ فندْرِكُها بالَّلمْسِ؛ واللونُ نُدْرِكُه بالرُّؤيَةُ.. وأخْطَأَ (لوك) عندما زَعَم أنَّ الْـوَزْنَ يُدْرَكُ بالحسِّ البسيط !!..كلّاَ؛ بل ذلك يُدْرَكُ بالْـحِسِّ الْمُرَكَّبِ (التَّجْرِبةِ، أو الحسِّ الْمُرَكَّبِ)؛ فلسنا نُدْرِكُ بالَّرؤْيَةِ أو الَّلمْسِ مقدارَ الْوَزْنِ؛ بل ندرك ذلك مِن جِرْمٍ يَزِنُ، وجِرْمٍ موزونٌ؛ فنضبطُ مِقْدَارَ الموزونِ بإحصاء مِقْدارِه بالْعَدِّ. والوقفةُ الثانيةُ: أنَّ إطلاقَ كَلِمَةَ (اللامُتناهي؛ أيْ غيرِ الْمُتناهي)على ربِّنا جل جلالُه: ليس مَأثُوراً شرعياً؛ وهو بمعنى (لا نهايةَ له)؛ وعلى هذا فليس هو من أسماء الله الحسنى؛ ولكننا نَقْبَلُهُ صفةً لله بمعنى الصِّفةِ الثابِتَةِ بالنصِّ الشرعي (وأنت الآخر فليس بعدك شيئٌ)، ومعنى (أنَّه لا شيئَ بعده): أنَّه الحيُّ الباقي الدائم الْفعَّالُ لِما يريدُ، وأنه كلَّ يومٍ في شأنٍ لا نهايةَ لِخَلْقِه وتدبيره كما أنه لا بدايةَ لذلك إلا أنه الأوَّلُ لا شيئَ قَبْلَه، وقد تقصَّيْتُ هذه الْمَسْأَلَةَ في هذه الجريدة منذ سنواتٍ؛ وبيَّنْتُ أن الموجوداتِ غيرَ اللهِ سبحانه وتعالى يستحيلُ تَصَوُّرُ وجودِها مصادفَةً، كما أنَّه مِن الْمُحالِ تفسيرُها بغيرِ خالقٍ واحدٍ لا منازِعَ له، وله الكمالُ الْمُطْلَق والْقُدْسِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ عن كلِّ نقْصٍ وعيبٍ.. والْعَقْلُ البشريُّ لا يَسْتَقِرُّ تَفْكِيْرُهُ إلا بهذا التَّصَوُّر الحتميِّ؛ ويتميَّزُ الْمُؤْمِن بأنه كأنه يرى ربَّه بعينِ قلبِه؛ لِما يُفِيْضُهُ اللهُ على قَلْبِه مِن ثمارِ آياتِ الله في الأنْفسِ والآفاق، ولِما يتابِعُهُ عليه رَبُّه مِن الْمُبَشِّراتِ يَقْظَةً ومناماً وحضورَ ملائكةٍ كرامٍ يبشِّرونه، وتنزلُ بهم السكينَةُ.. ومن تلك الثِّمارِ المباركة خشْيَةُ الله، والبكاءُ، والتضرُّعُ بين يديْه، وإعانةُ الله إياه على المسابَقَةِ على فِعْلِ الخيراتِ، وازْدِيادِ فهْمِه كتابَ ربه سبحانه وتعالى وسنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم، واطمئنان القلبِ في حالاتِ الضَّعْفِ بأنَّ الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً سوى الشركِ بالله؛ فيرتاحُ القلبُ على حسنِ الظنِّ بربه؛ فإذا حصل له نشاطٌ عاوَدَهُ الخوفُ من رَبِّه، وسارعَ إلى فِعْلِ الْخَيْراتِ استعداداً للقاء ربه؛ فيعيش بين الخوف والرجاءِ؛ وذلك تَطَبُّعٍ بشرعِ الله؛ ثُمَّ جعل الله ذلك طبيعةً؛ فإذا وافَتْهُ الملائكةُ الكرامُ لِقَبْضِ روحه: فهناك الاطمئنانُ، وخُذْلانُ الشيطانِ، ورؤيَةُ المنازِل الكريمة بالبصر الذي صار حديداً، وإلهامُ اللهِ إياهُ الشهادتين.. والمأثورُ عند وفاة الإمامِ أحمدَ بنَ حنبلٍ رحمه الله تعالى لَمَّا حَضَرَهُ الموتُ محاورتُه الشيطانَ لعنه الله بقولِهِ: (بَعْدْ بَعَدْ يا عدوَّ الله).. يعني استمرارَه على استحضار الشهادتين. والوقفةُ الثالثة: أنَّ (لوك) ضربَ الْمِثالَ بالْكَآ بَةِ التي تحصلُ للطفلِ [وتحصل للكبير والكهل والشاب] مِن قراءةِ كتابٍ مثلِ روايةٍ نهايتُها مأساةٌ فَظيْعَةٌ؛ فيحصُلُ الوجَلُ والخوفُ والكآبة كما يَحْصُلُ من وساوُسِ الشيطانِ الذي يأمر بالمنكر والفحشاء، وَيَعِدُ بالْفَقْرِ، ويخوِّفُ أولياءَهُ.. والشفاءُ مِن كلِّ ذلك معروفٌ مِن الأدْوِيَةِ الشرعية المطهَّرة؛ وإلى لقاءٍ في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان. مقالات أخرى للكاتب الْفَهْمُ الإنْسَانيُّ الْـمُشْتَرَكُ (3) الْفَهْمُ الإنْسَانيُّ الْمُشْتَرَكُ: (2) الْفَهْمُ الإنْسَانيُّ الْمُشْتَرَكُ : الْأَمَانَةُ مَعَ اللُّغَةِ أَمَانَةٌ مَعَ شَرْعِ اللهِ: (4) الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله

مشاركة :