د. عبدالله الغذامي يكتب: الأرض والذاكرة

  • 10/29/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تتشكل الذاكرة البشرية عبر المكان، وكل نفس بشرية تولد، إنما تولد في مكان، وهذا المكان هو الجغرافية الأولى التي استقبلت النفس بجسدها الغض واحتضنتها لحظة خروجها من رحم الأم، ومن هنا يصبح هذا المكان المحدد هو الرحم الذي شهد انطلاق الجسد وتحوله لكتلة متحركة، ولكنها حركة تنازعها الروح في توقها للرحم وتعلقها به، ولذا ترتبط الروح في المكان الذي ولد المرء فيه ورسم له انطلاق وعيه وذاكرته، ومن ثم تتقبل الروح المكان بديلاً عن الرحم الذي فقدته وتعرت خارجه في فضاءات الاستقلال المكاني الذي ستدخل الروح فيه لصناعة ذاكرة واقعية بعيداً عن عالمها الأول الحالم السابح في الماء، وتحل الروح في الأرض التي يسعى بها الجسد حسب مكتسباته وحسب ما تلتقطه الروح من موجبات المعاني والألفة واليقظة من بعد منام، ولكن لو حدث أن فقد المرء أرضه فماذا سيحدث للروح التي تقبلت الانفصال الأخطر والأهم في حياة الذات، حيث تحولت من الرحم إلى الأرض، ثم تفقد الروح الأرض الأولى المرتبطة بذاكرة الرحم، وهذا الانفصال سيحدث شرخاً داخل الروح، ومهما حل الجسد في مكان آخر، فإن الروح تظل معلقةً بمكانها الأول، حيث هو الأقرب لجوار الرحم الأول، وهنا تصبح الذاكرة في حال انفصام بين أصلها وزمنها لتسير في أرضٍ أخرى ليست أرضها ولا هي زمنها وستظل أرض غيرها، وهنا تشرع الذاكرة تحيل للمكان الأول مما سيشكل عذاب الروح لأنه يذكر بأوجاع الفراق وأوجاع الفقد، والروح وحدها تتحمل هذا العبء وتتعذب به مهما استمتع الجسد وتراضى بالعيش في مكان آخر، ولكنه مكان ستسميه اللغة بالملجأ، وإن تشابه مع الأصل أو كان أفضل من الأصل متعةً وجماليةً إلا أنه لن يشفي الروح من غربتها ولن يعالج وجع الذاكرة الذي سيظل وجعاً يحرق الروح، وهذه هي الحال التي عاشها محمود درويش وهو يردد في قصيدته «الأرض»: أُسمّي الترابَ امتداداً لروحي أُسمّي يديّ رصيفَ الجروح أُسمّي الحصى أجنحةً أسمّي العصافير لوزاً وتينا وأستلّ من تينة الصدر غصناً وأقذفهُ كالحجرْ بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي بلادي القريبة مني.. كسجني لماذا أغنّي مكاناً، ووجهي مكانْ لماذا أغنّي لطفل ينامُ على الزعفران وفي طرف النوم خنجر وأُمي تناولني صدرها وتموتُ أمامي بنسمةِ عنبر أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: النص لقارئه د. عبدالله الغذامي يكتب: الوعي والظن وكل فقد للأرض هو فقد للذاكرة، وبالتالي هو عذاب للروح لا تشفيه كلمات اللغة ولا تشفيه الأماكن البديلة مهما كانت رحيمةً ورخية، لأن الروح إذا فقدت رحمها لا تستقر إلا إذا عادت إليه، وإن لم تعد إليه حيةً فستعود إليه بعد أن تتحرر الروح من الجسد الذي هو وحده يريد مكاناً بديلاً غير أن الروح لا تقبل البديل وإذا تحررت عادت لمكانها لتخلع فيه لبوس الغربة والوجع.

مشاركة :