د. عبدالله الغذامي يكتب: المرأة والعدالة اللغوية

  • 3/19/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تقع بعض الصيغ اللغوية في حال من السجن الثقافي، وعلى مدى قرون مضت من تاريخ البشر كان الرجل هو القادر على صناعة المفاهيم بما أنه سيد لغة الكتابة، والكتابة هي الأداة التاريخية التي تحدد حال المفاهيم وتثبتها، وهنا سترى مقولات تعتمد مفردة الرجل لتعني الإنسان وليس جنس الذكور فحسب، فتقول مثلاً: كلنا ذاك الرجل، ومع الزمن استقرت هذه المقولة لدرجة أن المرأة نفسها ستجد صعوبة بتجنب المفردة لتقول مثلاً: كلنا تلك المرأة، وسيبدو القول هنا نشازاً ثقافياً لأنه يدخل في تنافر سياقي مع ذاكرة النص. وقس على ذلك مقولة ابن قتيبة: (يحكم على الرجل من جيده وإن قل)، وهذا قول يسري على الكل نساء ورجالاً، ومهما كنت نصيراً للعدالة اللغوية فليس بيدك أن تعيد صياغة الماضي وتغير صيغاً هي أقوى منا كأفراد. ولنا في مقولة حمزة شحاتة الشهيرة (الرجولة عماد الخلق الفاضل) عبرة تعين على تصور المأزق المفاهيمي، إذ من الواضح أن المعنى هو (المروءة عماد الخلق الفاضل) وهذه هي الدلالة التي تتضح بشكل ساطع حين تقرأ نص المحاضرة. وشحاتة ألقى تلك المحاضرة قبل بداية تعليم المرأة في السعودية بعقدين من الزمان (1940) ولم ينجب بعد خمس بنات كلهن متعلمات، وهن اللواتي كان يرى الدنيا كلها فيهن، ما جعله يكن تقديراً عظيماً لكنزه الخاص من البنات، ولعله لو تولى بنفسه نشر محاضرته لأعاد صياغتها إلى (المروءة عماد الخلق الفاضل). ولن تفوتنا ملاحظة العدالة اللغوية في (المروءة) فهي مفردة مؤنثة، ولن ينازع الرجال عليها ولن يحسوا بفقدان رجولتهم معها، بل إن ذاكرة هذه المفردة تتوج الرجل بأعلى القيم في حين تمنح المرأة منزلة تجعلها داخل السياق، وسيحضر هذا التداخل اللفظي والكتابي بين صيغتي: مروءة/‏‏ امرأة. بمثل ما كان هناك تداخل لفظي وكتابي بين: رجل/‏‏ رجولة. ومن الجلي أن حديثنا هذا لم يكن له ليرد زمن شحاتة وما قبله، ولكنه يرد اليوم بحرية فكرية ساطعة، وهذه شهادة على ما تفعله الثقافة فينا حين تفتح لنا آفاقاً للتفكر كانت غير واردة من قبل، والمرأة التي كانت خارج سياق المفاهيم أصبحت اليوم تشكل تحدياً لمعالجة مبحث (العدالة اللغوية)، والتي هي لغة القرآن الكريم الذي أعطى المرأة وجوداً لغوياً منصفاً: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (35) هذه عدالة لغوية، فهل نعدل نحن بما إن العدالة اللغوية تتحول إلى عدالة سلوكية وذهنية.

مشاركة :