سرمد يوسف قادر، أو سرمد الرسام كما هو معروف، عاش وترعرع في بيت فني، في دهوك، في كردستان العراق، فهو إبن الفنان الدهوكي المعروف يوسف زنكنة، فكان لا بد أن تكون حياته ممتلئة وزاخرة بتجربة والده، وأن يكتسب منها بعضاً من أهم الدروس التي أضاءت طريقه نحو الحياة التي يقتنص منها بعضاً من تلك اللحظات التي ستشكل شخصيته، فهو لم يكن يبدد الوقت ولا الطاقة التي يحملها في داخله، والتي كانت بدورها تغلي في داخله حتى يترك فيها ذلك الحب والعشق لهذا المسار، مسار الفن والإبداع، فسرمد يمنح الحرية لنفسه، وفي ذلك سر ومعنى لتكون إختياراته في نهاية المطاف بأهمية خطواته وأفكاره، فهو يبدو على الدوام في حالة من السفر العميق لعوالم اللوحة ومكوناتها، فيها وبها يحلق في ترحاله الجميل، غارقاً فيها وكأنه في رحلة من أجمل رحلاته، بل هو كذلك فعلاً، فبقدر ما تكون صرخته الصامتة صريحة ولطيفة، وبعيدة عن الزيف، بقدر ما يكون حرّاً لا يمكن أن يقع في شباك العناكب التي تحول الإبتسامة إلى لون قاتم وهي تمضي في الريح، فهو لا يتظاهر بالأشياء التي يعيشها، بل يمضي معها وقتاً جميلاً يجعل من علاقته بلوحته علاقة حب وشوق، فلا يقفز فوق التفاصيل التي تمنحه رائحة غريبة تجعل من إهتمامه بها ذي مغرى حقيقي باق، وكأنه يشرب قهوته مع إمرأة بقيت نائمة بحلمها في حلمه، فالتوق حقيقة من الحقائق التي تتحدث بهدوء ولطف عن تلك الطقوس التي يحتاجها كي تكون الحالة طافية بالأحاسيس التي يحتاجها كل مبدع في هكذا تداعيات حتى تبدأ القيم المعرفية أو الثقافية على نحو عام بالبرق والرعد حتى تتشكل كغيوم صيف تمطر عذباً على فضاءاته، حتى تبدأ إنفعالاته بالتدفق وكأنها خمر تسكر روحه مع روح تلك الفضاءات، فينتشي كل منهما في الآخر حتى يلد المشهد معافى تماماً إلا من الجمال ومعزوفاته. دهوك من أجمل مدن كردستان العراق على الإطلاق، من يسكنها لا بد أن تسكن فيه، ومن يمنحها حبه وجماله لا بد أن تمنحه حبها وجمالها، ومن سكنته تلك البدايات وبذلك الحب وذلك الجمال لا يمكن إلا أن يكون فناناً، وسرمد الرسام الفنان الذي نحن بصدد قراءة تجربته هنا هو إبن لهذه المدينة، حبا فيها، ومشى في أزقتها وبين بيوتها وحواريها، وتنفس من هوائها وهواء جبالها الأنقى من حب مم لزين، فظل مبعثراً فيها، وفي تاريخها، ويومياتها، حتى وهي في أشد حالاتها تعباً، فهي بالنسبة له الأم الرؤوم التي تحمل وزر أبنائها وكل عبثهم، مارس التدريس في معهدها للفنون الجميلة، ليقدم بدوره لأبنائها ما يخبئه في أدغاله، فارداً لهم لآلئها عساها تكون كرد جزء من ديونها في ذمته، فسرمد يبدو وفياً للأمكنة، مستكشفاً إياها برغبة ترافقه على إمتداد النبض، لدرجة حول الكثير من لحظاتها إلى مشاهد بصرية تنبض بروح حرة على فضاءاته، بذات الروح التي تبيت فيه، وهذه بحد ذاتها تشكل مغامرة جميلة بالنسبة له، تستحق الإندفاع فيها للعثور على بعض ما يبحث عنه، كما يسعى سرمد كثيراً كي يكون شخصاً مغايراً، حاله كحال كل الفنانين، لا يريد أن يكون إلا نفسه، متيقناً أن السبيل الوحيد لتحقيق فرادته هو الإقرار بأنه لا يمكن أن يخطو خطوته ما لم يكن على دراية بأنه يحتاج إلى المزيد منها، وبأنه مهما تعلم وحمل من المعرفة فإحساسه تشير له بجهله، فما زال ظامئاً لينابيع كثيرة، وهذا الإقرار مع الذات هو فرصته وفرصتنا لنكون من الناجحين، ومن الممكن أن يحقق الكثير إذا بقي هذا الإحساس يلازمه، فلا رفض للمحاولات مهما دفعته نحو التساؤلات الكثيرة التي تقضي في مضجعه، وهذا سوف يزيد من احتمالية ترفيه بكل يقينها، فيتمسك بجوانب واقعية من لحظاتها حتى يتمكن من إنعاشها في الحين الذي يشاء. هاجس سرمد الرسام وهو بين ألوانه وريشه لا أن يكون على صواب، هذه الكلمة ملغاة في قاموس الفنانين الحقيقيين، ويرفضها الجميع، فالعمل الإبداعي يقول ما لديه، إن كان بوضوح وفي هذا طفيف تعليق قد لا يكون لصالح العملية الإبداعية، فالوضوح يقربه من الرسم لا من الفن، أو برموز، أو بإشارات، أو ما ستوحيه العملية بجملة كاملة تفعل هي فعلها في قارئها، لوصول كل منهما إلى الآخر، أقول إن هاجس سرمد لا يكمن في صوابيته، ولا في لاوصوله، بل في طريقته، إن كانت في التعبير أو في لاوصول، فهو بقدر ما يقترب من اللاحقيقي بقدر ما يقترب من جوهر ما يبحث عنه، فالعملية الفنية بوصفها عملية إبداعية تعثر على أجوبة أسئلتها التي تراودها بذاتها، وهذا أمر من صلب العملية الإبداعية ذاتها، وهو في كل الأحوال يتحمل مسؤولية إنفعالاته ومشاعره دون أن يتخلى عن طريقته في التعبير، الطريقة التي ترافقها أحاسيسه بكل تردداتها وذهابها وإيابها، ويهتم بالأمر في أقصى حدوده، وهذا متوقع منه وهو الذي يعتبر العملية الفنية مسؤولية قد تجعله تعيساً أو سعيداً تبعاً لتوفقه أو عدمه في إحيائها، ومن الجدير بالذكر أن سرمد يمارس العملية الفنية وكأنه يمارس تمرينات رياضية، أو كأنه في رحلة مدرسية، أقصد من ذلك بأنه يقوم بذلك بكل حب وفرح وعشق، وشيئاً فشيئاً تصبح الحالة عنده إلهام وهيام حتى يستطيع في نهاية المطاف أن يضع اللائمة أو بعضها على الأقل على ما يجعله حزيناً أو سعيداً رغم ما فعلت به المقياس الذي يقيس به تجاربه. سرمد الرسام يملك ذاكرة المدينة وصندوقها، الذاكرة التي تسعفه في الإنغماس في حياتها اليومية، وتضعه أمام خيارات الإلتقاط وردود أفعاله كمسؤول لإتخاذها أو عدم إتخاذها، كمسؤول عن إدارة النتائج الإنفعالية والنفسية لتلك الحالات، فيستولي عليها أقصد على تلك الذاكرة لترافقه نحو زوايا من تلك الحياة العامة وحواريها، فيطلق العنان لريشته لترسم رجلاً حاملاً الحطب أو القش، وهذا إختيار مذهل في حد ذاته، وقد تساعد الرجل في حل بعض مشكلاته، فيتوقف عند التعب الذي يتلبسه عائداً من حقله إلى بيته وعينه على بعض الراحة على مدى القصير، أو إنه قد يستمتع وهو يلتقط من الحياة حياة أخرى، حياة البسطاء من منابعها الإجتماعية، وهي الفطرة ولا شيء غيرها، من منابعها المعرفية كنتيجة لتشكيل خصائص لها بيئتها الزمانية والجغرافية، وهذا يكفل له مقاربة مجموعة من التراكمات الحياتية التي تشعره بالإنتماء إليها فكانت لوحة بائع التبغ في أكثر من صياغة، ولوحة بائع السجاد وصانع الفخار وعازف المزمار ... إلى آخره، فهو رغم إهتمامه بالتقنيات المختلفة وبكيفية التنافس بينها فهو كغيره من الفنانين الكورد يكتنفه روح الإنتماء فكانت الأحصنة وجموحها وبحضور يعكس عوالمه التي تسمح له بإختزالها من وجهة نظر فنية تتضح لنا كمراقبين غير منحازين المصدر الداخلي في الخارجي لإيجاد إدراكات ضرورية تبحث عن الجواب في الواقعية التي يشتغل عليها نفسها، وهنا عليه الإرتباط بالرؤية الجمالية التي تشكل مشهده البصري.
مشاركة :