تسعى الدول في ميادين منافساتها البينية أن تصنع علامة تسويقية لأنموذجها وواقعها الدولي كقوة ناعمة لها، وبالتالي فهي تحقق مكاسب متنوعة في مجالات مختلفة سياسيا وأمنيا واقتصاديا وثقافيا، وبالتالي، فالعلاقة طردية هنا بين أنموذج الدولة وقوتها الناعمة، فكلما نجحت الدولة في تسويق أنموذجها الإعلامي والذي يتكون من ريادات متفوقة في الجانب السياسي والاقتصادي والثقافي والرياضي، ارتفعت مؤشراتها في مقياس القوة الناعمة لصالحها، علما أن ذلك لا يمكن أن يتم بالصورة المثلى إلا في بيئة تتمتع بالاستقرار الأمني.عالميا، وحول الحديث الذي يشغل برامج الحوار السياسي، هل العالم يتجه نحو استمرارية القطبية الواحدة بقيادة الولايات المتحدة أم نحو قطبية متعددة بوجود الصين وروسيا؟ لو طبقنا فكرة أنموذج الدولة كأداة تنبئية حول مستقبل القطبية، لوجدنا أن الصين قد نجحت في تسويق وجودها كأنموذج دولي على عكس روسيا، فالصين تقدم أنموذجها السياسي من خلال سلوكيات ريادية دولية متنوعة لعل آخرها نجاح الاتفاق السعودي الإيراني، وهي الآن تسعى بكل ثقلها لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في أوروبا، أما ثقافيا فهي تسعى إلى تسويق ثقافتها من خلال معاهد الكونفوشيوس التي تنتشر حول العالم بأكثر من 2000 معهد صيني لترويج اللغة الصينية وثقافتها المحلية. أما نجاحها الاقتصادي فلا يحتاج إلى برهان، فهي الرقم الثاني عالميا، وتسعى بكل ثقة وطمأنينة نحو انتزاع الرقم واحد من غريمتها الولايات المتحدة.وفي الجهة المقابلة نجد أن روسيا الاتحادية تفتقد إلى مقومات أنموذج الدولة الشاملة مثل الصين، فأنموذجها بصورته الحالية يرتكز على قوتها العسكرية فقط، أما اقتصادها فهو أنموذج ريعي يعتمد على الغاز وليس صناعي يمتلك منتجات وطنية تروج له في الأسواق العالمية مثل الحالة الصينية، أما المنتج الثقافي فيكاد ينعدم الحرص الروسي على ترويجه عالميا، وبالتالي ومن خلال فكرة الأنموذج فإن العالم قد يتهيأ نحو قطبية ثنائية فقط وليس ثلاثية.فكرة أنموذج الدولة قد تأخذنا في سياق الاستحضار التاريخي لدولة مثل اليابان التي اعتبرت دولة منكوبة بالكامل بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية وتم إلقاء قنبلتين مدمرتين عليها، لكن اليابانيين وبفضل عزيمتهم الصلبة تجاه إعادة بناء وطنهم جعلهم في سباق وجودي حتى وصلوا إلى الاقتصاد الثالث عالميا، نجاحات اليابانيين المبهرة في علوم التكنولوجيا كان لها الأثر الأكبر في صناعة أنموذج رفيع لدولتهم في العالم عموما وفي شرق آسيا تحديدا، هذا الأنموذج تأسس في جوهره على معجزة اقتصادية بناها اليابانيون للتحول إلى مصدر إلهام حقيقي لكافة الدول المجاورة والتي نفضت عنها غبار التخلف وقررت أن تلحق بالركب الحضاري العالمي كسنغفورة وكوريا الجنوبية وماليزيا وتايوان وإندونيسيا وأخيرا الصين، والتي نجحت في بناء أنموذج وطني تفوق على اليابانيين أنفسهم ولم يستطيعوا مجاراته أو منافسته حتى الآن.من سمات المرحلة الدولية الحالية والقادمة، أن الدول الصاعدة قد نجحت أيضا في تسويق أنموذجها الوطني كقوة مؤثرة في عالم اليوم، كالهند والبرازيل والمملكة العربية السعودية، فالرياض مثلا قد نجحت في فرض واقع مجموعة أوبك على الساحة الدولية، وتفوقت في تقديم مصالح الدول المنتجة للنفط في المنظمة على الاعتبارات الأخرى، بالإضافة إلى أن المملكة نجحت في احتضان أقوى المنافسات الرياضية العالمية، وبفضل الرؤية الوطنية استطاعت المملكة أن تصبح وجهة دولية لكل العالم، وهنا نتحدث عن نجاح متميز في صناعة أنموذج الدولة والقوة الناعمة.[email protected]
مشاركة :