مرَّ رجلٌ بالإمام الإشبيليّ -رحمه الله- فقال له: ما معنى الكموج؟ فتعجّب الإشبيليّ من الكلمة وسأل الرجل: أين قرأتها؟ فقال: قرأتها في معلّقة امرؤ القيس «وليلٍ كموجِ البحر أرخى سدوله» فقال الإمام الأشبيلي: الكموج هو دابة تقرأ ولا تفهم»! وكان أبو حنيفة رضي الله عنه عندما يجلس مع تلامذته في المسجد.. يمد رجليه بسبب آلام قد أصابته، وبينما هو يعطي الدرس ممدّداً قدميه إلى الأمام جاءه رجل عليه أمارات الوقار والحشمة، لذلك طوى أبو حنيفة ساقيه وتربّع، فقال الرجل لأبي حنيفة، بلا مقدمات: يا أبا حنيفة، إني سائلك فأجبني، فشعر أبو حنيفة أنه أمام شخصٍ ربّاني ذي علم واسع واطلاع عظيم، فقال له: اسأل، فقال: أجبني إن كنت عالمًا يُتَّكل عليه في الفتوى، متى يُفطر الصائم؟ ظنّ أبو حنيفة أن السؤال فيه مكيدة أو طرفة لا يدركها علم أبي حنيفة. ثمّ أجابه: يفطر إذا غربت الشمس، فقال الرجل بعد إجابة أبي حنيفة، بملاح جادة وصوت متزن: وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة، فمتى يُفطر الصائم؟ فقال الإمام قوله الشهير: آن لأبي حنيفة أن يمدّد رجليه! الجهلُ لا يعني دائماً عدم التعلّم.. بل يعني كذلك الخفيّ من الأشياء، وقيل جهلتُ ما وراء الباب أي لم أطّلع على ما خلفه، وجهلتُ المسألة أي لم أتعلمها بعد، فالجهل ليس حكراً على عدم العلم، بل يطلق كذلك على ما خفي منا! ما زال الجهل مهمّاً لدى العلماء باختلاف علومهم، فعند المنطقيين يُعتبر العلم مقابلاً للجهل كما يقابل العدم الوجود، لكنّ الإشكال في هذا أننا نستطيع تحديد شكل من أشكال العلم.. كالكتب والمراجع والأبحاث، لكننا لا نستطيع تمييز شكل واحد للجهل.. ولا نستطيع الإشارة إلى آثار الجهل فنقول هذا هو الجهل، بل هذه آثار الجاهل الذي عمل بجهله واتبعه، لا الجهل نفسه! وبالرغم من هذا كله.. نجد للجهل نفعاً بارزاً ينتفع به الجميع كما نجد له ضرراً بالغاً يعرفه الجميع، لكنّ فوائده تخفى على البعض، ولذلك تفرّع علم الاجتماع لدراسة الجهل والاستفادة منه في البحث العلميّ لتطوير العالم، ومثال ذلك الصندوق الأسود.. حيث يخفى على الناس مكانه وماذا فيه، بينما تظهر فائدته لمستخدمه المختص فقط، ومن فوائد الجهل.. التسليم للقضاء والقدر من منظور شرعيّ، فالعارف بأنّ القضاء أمرُ اللهِ يجهل كنهه حتى يقع، ولو وقع القضاءُ وعرفه المؤمن به لجهل ما وراءه من خير، وإلا لما لجأ المُبتلى إلى الله ليثيبه ويجزيه الحسنات، لما دعى واستغفر، وحوقل واسترجع، وأوكل الأمر لله، حتى يُثاب ويكافأ بما يخبئه الله له من عوض، وكما يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}. شواهد الدين لا تنضب عن فائدة الجهل بالغيب، لكنّ هذا لا يعطي للجهل مزيةً على العلم، فليست كلّ أمور الحياة تتطلّب جهلاً.. بل إنّ أغلبها يحثّ على التعلّم والاستزادة، وإلا لما قال الله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. لكنّ الجهل ليس كالغباء.. فالجاهل يتعلّم، أما الغبيّ سيظنّ نفسه عالماً، كما قال جورج برنارد شو «إذا قرأ الغبي الكثير من الكُتب الغبية، سيتحول إلى غبي مُزعج وخطير جداً، لأنه سيصبح غبياً واثقاً من نفسه وهنا تكمُن الكارثة»، فانظر من أين تستقي علمك حتى لا تكون غبياً متعلماً بما لا ينفع، بل يضرّ!
مشاركة :