الطائف، ذلك الاتفاق الذي أنهى، برعاية عربية ودولية، الحرب الأهلية بتشابكاتها الإقليمية والدولية، سيّما وأنه كان مرفوقاً بترسانة عسكرية عربية ودولية، شكّل الجيش العربي السوري، بالتحالف مع حركة أمل والحركة الوطنية بزعامة وليد جنبلاط، رأس حربتها للإطاحة برئيس الحكومة العسكرية المتمرد ميشال عون عن قصر بعبدا. ثم تواطأ الممسكون بتلابيب السلطة المستولدة من رحم الطائف فيما بينهم على تجويفه وعدم استكمالهم ورشة الإصلاحات السياسية والاقتصادية المختلفة، وسط تراجع من رعاة الطائف العرب والأجانب عن متابعة واستكمال دورهم في تنفيذ بنود الاتفاق العريضة والتفصيلية وإيكالهم الرعاية للدولة السورية التي كان لها رؤيتها المتمايزة عن نظرائها، فضلاً عن بصمتها على المشهد اللبناني والإقليمي. وقد تركت العملية العسكرية ضد ميشال عون الكثير من الآثار، فوّلدت ما سُمّي بالاحباط في الشارع المسيحي والذي عُبّر عنه بمقاطعة انتخابات مابعد الطائف، ما استنبت نواباً مسيحيين بعشرات الأصوات بعيداً عن أي حيثية شعبية. ثم جرت تطورات ومياه كثيرة ساهمت في تأمين إعادة إنخراط المسيحيين بقيادة البطريرك الراحل نصرالله صفير في الحياة السياسية. تزامناً مع تواطؤ زعماء الطائف، والمحبطين منه. بدأ ينمو التخطيط للثأر من الطائف خصوصاً في الشارع المسيحي الذي وجد اثنين من أبرز قياداته وهما ميشال عون وخصمه سمير جعجع بين المنفى والسجن. الأول بسبب تذرعه بـ “فاصلة” أراد تضمينها في اتفاق الطائف، والثاني بسبب ارتكابه جرائم أدين بها منها اغتياله لرئيس وزراء لبنان رشيد كرامي. توازياً مع ما تقدّم أعلاه، كان حزب الله المنصرف كلياً إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، يبتلع ويقضم البيئة الشيعية ويتمدّد في البيئات الاجتماعية والمناطقية الأخرى، حيث أن العداء لإسرائيل متأصّل لدى غالبية اللبنانيين. وبدا زهد حزب الله بالسلطة وابتعاده عنها، يضاعف من رصيده الشعبي لدى اللبنانيين عامة حتى وقع زلزال اغتيال رفيق الحريري المستولد من رحم الزلزال الأكبر المتمثل باغتيال العراق عبر احتلاله وغزوه عام 2003. والحقيقة، أن اغتيال الحريري، كان محاولة لاغتيال مرحلة الطائف وصنّاعه. فلبنان بعد اغتيال الحريري هو بدون شك ليس كما قبله. إنّه الاغتيال الذي أطاح بترتيبات عربية وإقليمية ودولية كبرى لمصلحة اندفاعة إيرانية جديدة منطلقة عبر منصّات التخادم بين الولايات المتحدة وإيران، انطلاقاً من غزو العراق إيّاه الذي لم يزل العرب خاصة والمنطقة عامة، يعيشون آثار تداعياته وارتداداته المتواصلة والمتناسلة من باب المندب إلى حقل كاريش. ثم أتت ثورات الربيع التي توسّلها البعض لنشر الدمّ والدمار والفوضى من صنعاء إلى دمشق، مروراً بمصر وتونس وليبيا والبحرين، في ظل كلام كثير يتردّد في كواليس الأروقة الدولية عن نسخة خليجية لهذا الربيع الذي لفحت رياحه مؤخراً الجزائر بعد عشريتها السوداء، لكنّ أبناء الجزائر وجيشه بقيادة الفريق احمد قايد صالح نجحوا في استئصال “العصابة” وشرعوا في بناء مداميك الجزائر من جديد. أمّا السودان فلم يستقر على برّ الأمان رغم تطبيعه غير المفهوم مع “اسرائيل”، فيما تحاول تونس تلمّس طريق التعافي من فترة حكم الإخوان. وفي العراق تبخّرت عنتريات مقتدى الصدر الذي استسلم لمشيئة إسماعيل قاآني والإطار التنسيقي ومخرجاتهم الجديدة في الحكم، في حين أن ثورة تشرين اللبنانية انتهت إلى بضعة عشر نائباً انفرط عقدهم ربطاً بعدم اتفاقهم على مرشح لرئاسة الجمهورية. ثم جاء توقيع الترسيم بين لبنان و”إسرائيل”، والذي لم يعد سرّاً إنه نتيجة اتفاق إيراني أميركي لعبت فيه قطر دور الوسيط ما أمّن لها امتلاك استثمار حصة غاز بروم الروسية من حقول الترسيم جنوباً. إنه الاتفاق الذي أرادته واشنطن للتخفيف من وطأة بوتين على أنابيب الطاقة، وكمقدمة ضرورية لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، سيّما وأنّه يسحب كل ذرائع”إسرائيل” في معارضة الاتفاق النووي بعد توقيعها للترسيم مع إيران عبر وكلائها في لبنان. بدون شك، لبنان ما بعد الترسيم يختلف عمّا قبله. فالكلمة ما فوق العليا في لبنان الترسيم تكرّست لحزب الله فلم تعد قوته بمسيّراته، إنّما بقوة الترسيم الحائز على كل الضمانات البايدنية. فليس تفصيلاً أن تتحدث السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا عن براغماتية حزب الله.. البراغماتية التي تبات مع “التقية” الأميركية في سرير واحد. إنّهما البراغماتية والتقيّة اللذان تزاوجا بواسطة المأذون القطري ومن وراء ظهر عن السعودية. توازياً مع إرهاصات الترسيم، برزت سويسرا كراعية لحوار بين مجموعات لبنانية تردّد أنه حول مستقبل لبنان ونظامه السياسي، أي حول لبنان ما بعد الترسيم الذي ينبغي أن يؤمن الأثمان السياسية ليستوعب “دستورياً” مسيّرات حزب الله العارية والمفخخة، وصواريخه الدقيقة والمجنّحة. إنه الحوار الذي أثار ريبة السعودية وجهات لبنانية عدة. فمنذ متى تلعب سويسرا مثل هذه الأدوار الصعبة دون توافقها مع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية؟ أم أنّ سويسرا خرجت من حيادها لتكون قفازاً غير حريري للولايات المتحدة بوصفها ضمانة الترسيم وصمّام أمانه الوحيد؟. بهذا المعنى، تبدو الوجهة الاستراتيجية لمنتدى الطائف الذي نظّمه سفير السعودية في بيروت وليد بخاري، ليس لتقويض الحيادية السويسرانية، بقدر التصويب على التقيّة الأميركية، سيّما وأن البخاري الذي جحّظ كثيراً نفي أي نية أو توجه لفرنسا بعقد مؤتمر حول الطائف، لم ينكر مثل هذا الأمر عن واشنطن. وإذا كان اتفاق الترسيم مقدمة أميركية إستراتيجية لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، فإن فوز تحالف الليكود في “الانتخابات الإسرائيلية” مع ما تضمّنه من تعهد بنيامين نتنياهو وتهديده بإلغاء الترسيم مع لبنان الذي لا يمكن أن يكتمل دون فوز الجمهوريين في الانتخابات الأميركية، فعلينا ألا نغفل أن ممزّق الاتفاق النووي دونالد ترامب قد يمزق أيضاً براغماتية بايدن وإنجازه التاريخي في الترسيم، وعندها يصبح الكلام عن البراغماتية والتقيّة وهم وسراب.
مشاركة :