إنسان بدون: إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر

  • 1/15/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قبل أكثر من ستة أشهر، حضرت زواجا لثلاثة إخوة من "البدون"، وفوجئت أن اثنين منهم بلا زوجات، لأن زوجتيهما من بدون الكويت، ولم تتمكنا من الحصول على تأشيرة دخول إلى السعودية، بسبب أن توقيت الزواج كان قبل رمضان، وهو موعد يتزامن في العادة مع وقف تأشيرة الدخول للراغبين في أداء العمرة من البدون، ولن يكون باستطاعتهم زيارة السعودية إلا بدعوة قريبٍ من الدرجة الأولى، ولا أنكر أن هذا الموقف مر عليَّ بشكل عابر، لأن هذه المأساة لا تكاد تذكر بالنسبة إلى غيرها من مآسي فئة اعتادت على الحرمان، غير أن ما كان صادما هو أني قابلت أحد الزوجين قبل يومين فأبلغني أن زوجتيهما إلى الآن لم تتمكنا من الدخول إلى السعودية، وقد يسمح لهما بالدخول بعد أسبوعين أو ثلاثة، وقد لا يسمح! فخطر على البال عدد اللاجئين السوريين الذين دخلوا إلى أوروبا خلال الفترة ذاتها، وأرجو ألا يُفهَم من هذا الكلام غير شيء واحد فقط، وهو أني أود التذكير بقضية إنسانية، من المحرج أنها لم تحسم بعد، مؤكدا أن هؤلاء الناس وصلوا إلى أعلى درجات اليأس والإحباط، واستنفدوا الصبر بكل درجاته حتى وصلوا إلى حده الأقصى. فأوضاعهم صعبة، ومأساتهم أكبر من أن تُطاق، ومصيبتهم ليست كغيرها من المصائب، لأنها تكبر مع الأيام، فمع أن لهم امتدادات في دول الخليج كلها، إلا أن عمليات التنقل بالنسبة لهم صارت صعبة، وأقدامهم قد كُبلت، فلا يسمح لهم بالدخول إلى السعودية إلا عبر طائرات، أو ضمن حملات، من غير مراعاة لخصوصيتهم وما تحتمه عليهم ظروف العادات والتقاليد، وهم لا يدرون عن أسباب هذا الإجراء المفاجئ ولا مبرراته، فلما تقطعت بهم السبل، وأعياهم التعب وملوا الانتظار، لم يجدوا بدا من معاتبة الوطن بين الحين والآخر، مؤكدين أن هذا الوطن هو وطنهم الوحيد، وكل ما سواه فهو مهجر! وإعلانهم أن الحب لهذا الوطن لا يعدله حب، وولاءهم لهذه القيادة لا يعدله ولاء، لكنهم مع ذلك لولا ظروف أسرهم لأعلنوا الرحيل رغم مرارته، ولسان حالهم يقول: "إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر". إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولذلك فإن بعضا من الأحكام التي يصدرها البعض ضد أبناء القبائل من "البدون" تأخذ طابعا مثاليا حالما، لا يختلف كثيرا عن ملكة فرنسا "ماري أنطوانيت" حين سألت أحد المسؤولين عن سبب غضب الباريسيين وخروجهم إلى الشوارع، ولما أخبرها أنه ليس لديهم خبز، قالت: "إذن دعهم يأكلون كعكا!، فهؤلاء الناس عاشوا أربعين سنة بطريقة عصامية، ترعبهم نقاط التفتيش في آخر الشوارع، وتجرح كبرياءهم الحاجة، فلا يريدون لأبنائهم أن يعيشوا كما عاشوا، ويُعانوا كما عانوا، فتمضي أعمارهم كما مضت أعمار آبائهم مناشدات ومطالبات". تتلخص المأساة التي يعيشونها في أنهم يواجهون مستقبلا من الفراغ، ويجدون صعوبة في أن يعيشوا الحياة بحدها الأدنى، لدرجة أن أحدهم لو سُئل عن صلته بالمرأة التي تجلس إلى جانبه لما أمكنه إثبات ذلك!. قدر هذا النوع من البشر أن كُتِب عليه العذاب، والبقاء على هامش الحياة. فهم ليسوا أحياء ولا أمواتا، ولكنهم في منزلة بين المنزلتين، فلا يشعرون بالحياة إلا حين يتسلل ملك الموت إلى أحدهم فيقبض روحه، على اعتبار أنه في عداد الأحياء، مع أنه لم يعش أصلا!، فهم لم يُذكروا حتى من رفاق الأمس، ممن قاسموهم حلو الأيام ومُرَّها، وشَظَفَ العيش ورغده، ومن المؤسف أن بعضا من المشاهير من أصحابهم ما إن حصلوا على الجنسية حتى تنكروا لهم، وقلَّت زيارتهم، ثم انقطعت، وتناسوهم حتى نسوهم، بل صاروا يجتنبون الخوض في قضيتهم، كما لو كانوا من ذكرياتهم الرَثَّة وماضيهم التعيس، مع أنهم الأقدر على وصف أحوالهم، ومعرفة أدق تفاصيل حياتهم، فنحن نشعر بمعاناتهم لمجرد عدم تخيلنا لوجود إنسان بلا وطن، وتتحرك مشاعرنا لطفل قضى أيامه يردد: "النشيد الوطني"، فلما كبر، وعلم ما علم، اسودّت الدنيا في وجهه، وضاقت عليه الأرض من كل أطرافها، وما من يوم يأتي إلا وهو يستقبل فيه حظه من العذاب. إنني أتمنى من الإخوة المسؤولين -وهم معروفون بإنسانيتهم- أن يتكرموا بإصدار أوامرهم بتسهيل تنقلات إخواننا من "البدون" مع المسارعة في حسم قضيتهم، فإن كل تأخير سيترتب عليه قصص طويلة من العذاب، راجيا ألا يُترك مصيرهم بيد بعض شيوخ القبائل ممن يريدون الاتجار بقضيتهم، ويعملون على تصعيب حلها، بعدما أثروا على حسابهم، وأن يُنظَر إليهم على أنهم مواطنون عائدون لا نازحين، كما قال راحلُنا الكبير نايف بن عبدالعزيز "رحمه الله".

مشاركة :