العراق بلد العمائم السوداء

  • 11/10/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

سألت ذات مرة صديقي الآثاري الدكتور فوزي رشيد عن معنى عبارة "أرض السواد" التي هي واحدة من أسماء العراق القديم فقال "إن السومريين يوم سقطت دولة أور الثالثة قرروا الرحيل منها وهم يرتدون عمائم سوداء فكان مشهدهم عبارة عن أرض سوداء تتحرك". قبلها كان الشائع أن العراق كان قد اكتسب ذلك الاسم من الخضرة الداكنة التي كُسيت بها أرضه بسبب مزارعه وحقوله، شاسعة المساحة. ولكن تفسير الآثاري الراحل هو الأكثر قربا إلى الحقيقة والواقع وإن كان ذلك مجرد تخمين. لقد رأيت بنفسي العمامة السوداء وهي تحيط برؤوس النساء الجنوبيات. ذلك إرث سومري استمر لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. كانت العمامة النسائية السوداء تُسمى "الجرغد". وكان هناك رجال دين شيعة يرتدونها من أجل تمييزهم عن عامة الناس. فهم أحفاد النبي محمد من جهة ابنته فاطمة زوجة وليه حسب المذهب الشيعي علي بن أبي طالب. ذلك بالنسبة لهم سبب وجيه للاعالي على الناس. كان أصحاب العمائم السوداء وقد لقبوا أنفسهم بالسادة ليتميزوا عن العامة يظهرون في مجالس العزاء من أجل أن تُخصص لهم وجبات غذاء دسمة. إذ أنهم كانوا مشهورين بشهيتم المفتوحة حين يتعلق الأمر باللحوم. كان حضور السيد على مائدة ما مصدر فكاهة بالنسبة للعراقيين الذين لم يكونوا يوما ما شديدي التدين بقدر ما كانوا معتدلين في تدينهم ومنهم مَن لم تكن له أدنى علاقة بالدين. في كل الأحوال كان العراقيون لا يحترمون رجل الدين بسبب عمامته السوداء، بل بسبب علمه وحكمته وقدرته الشخصية على الإقناع. ولم تكن العمائم السوداء كثيرة في العراق. اما في بغداد فلم تكن هناك عمامة سوداء واحدة. ذلك لأن أصحاب تلك العمائم كانوا يختبئون في الضواحي والهوامش الفقيرة منها. يذكر التاريخ أن هناك سياسيا عراقيا واحدا كان يرتدي العمامة السوداء قد تم تعيينه رئيسا للوزراء ما بين عامي 1948 و1949 أي في الحقبة الملكية لمدة لا تزيد عن الستة اشهر. وكان قبلها نائبا. بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 صارت العمامة زياً لكل من أراد الالتحاق بعربة الاحتلال من جهة تنفيذ أجندته الطائفية. لقد تم افتتاح مكاتب لبيع أشجار عائلية كانت عبارة عن مستندات مزورة تُلحق مَن يشتريها بسلالة النبي، فيصبح سيدا يحق له ارتداء العمامة السوداء وهو ما يؤهله للحصول على امتيازات مادية أقرها القانون العراقي وبالأخص في مرحلتي حكم نوري المالكي. هناك اليوم في العراق أحياء جديدة لا يسكن فيها إلا أصحاب العمائم. تلك الأحياء بُنيت وفق أحدث المواصفات الهندسية، لا تنقطع فيها الكهرباء وتتمتع بخدمات عامة حُرمت منها أجزاء كثيرة من العراق. كما أن سكانها يحصلون على رواتب شهرية من غير أن يقوموا بأي عمل. إنهم سادة العراق الجديد، أصحاب العمائم السوداء الذين فاق عددهم عدد أصحاب العمائم السوداء في إيران ومعظمهم لا يزال في سن الشباب. العراق اليوم هو بلد العمائم السوداء. كل عمامة سوداء يقع تحتها رأس لا يفكر إلا في إدامة واستقرار النظام السياسي الذي تقوده أحزاب طائفية لا علاقة لها بأي مشروع وطني بل أنها والوطنية في حالة عداء بمعنى أنها لا تنظر إلى العراق باعتباره وطنا لجميع العراقيين وهي ترى في أصحاب العمائم السوداء رصيدا لها على المستوى الشعبي. فهم الفئة التي تضع الدين في خدمة تلك الأحزاب وبرنامجها في نهب ثروات الشعب وإشاعة الفساد عن طريق الفتاوى الدينية. قد يجد البعض أن تلك الظاهرة مجرد تفصيل صغير من تفاصيل الفساد الذي يجري تطبيعه في العراق من خلال إضفاء هالات تاريخية على الفاسدين غير أنها (أي ظاهرة أصحاب العمائم السوداء) هي الواجهة التي تشير إلى إزاحة الطابع المدني للمجتمع العراقي وتحوله إلى مجتمع يقوده رجال الدين الذين صاروا يشكلون مرجعا قانونيا في ظل غياب سلطة القانون. لقد اختصرت الأحزاب الدينية الموالية لإيران المسافة التي تؤدي إلى قيام الدولة الدينية من خلال إخضاع المجتمع لسلطة أصحاب العمائم السوداء الذين يسعون إلى تعميم الجهل والفقر والخرافة وعداء العلم والطب والتعليم والثقافة بشكل عام والاستخفاف بالعمل والتفكير العقلي بين صفوف الشعب. وإذا ما كان ظهور مقتدى الصدر بعمامته السوداء منقذا للعراق قد شكل هاجسا مرضيا في مرحلة ما فإن اختفاءه بعد فشله في انجاز أوهامه لا يعني أن المجتمع قد تحرر من سلطة عمامته التي صارت عنوانا لمجتمع فاشل.

مشاركة :