في أولى سنواتها، كانت سيلينا غوميز تخشى صوت الرعد كثيراً. لم تتصالح مع خوفها هذا إلا بعدما قدمت لها والدتها كتباً تفسّر ظاهرة البرق والرعد، وقالت لها: "كلما تعلمتِ عنها، كلما تراجع خوفك منها". كثيرةٌ الأعاصير التي عصفت بحياة الفنانة الأميركية لاحقاً. متمسّكةً بقاعدة أمها الذهبية، قررت أن تواجهها. في الوثائقي الصادر حديثاً على منصة Apple TV+ والذي يحمل عنوان “My Mind & Me” (عقلي وأنا)، تضع غوميز عقلها على طاولة التشريح أمام عيون المشاهدين. تفتتح الفيلم الذي يمتد ساعة ونصف الساعة بوَعد: "سأخبركم فقط بأسراري الأكثر ظلمةً". لا تُحصى فترات الخسوف التي ظلّلت سنوات المغنية الشابة. بدءاً بمعاناتها مع مرض الذئبة (lupus)، مروراً بخضوعها لعملية زرع كلية، وليس انتهاءً بالانهيارات النفسية التي رافقتها منذ سنة 2016، تاريخ انطلاق تصوير الوثائقي. خطوةً خطوة ودمعةً دمعة، ترافقها كاميرا المخرج أليك كيشيشيان الذي استسلمت غوميز لعدسته، قائلةً له من على سرير المستشفى: "أريد أن أشارك الناس القصة بكاملها. تابع التصوير." وبناءً على تلك الإشارة، واكبها كيشيشيان خلال أكثر لحظاتها ضعفاً وانهزاماً وهشاشةً. تنطلق الرحلة من جولتها العالمية عام 2016. تستعدّ الفنانة البالغة آنذاك 23 سنة، لحفلاتٍ متنقّلة بين الولايات المتحدة، وكندا، وآسيا، وأستراليا. تجرّب الملابس البرّاقة وتتدرّب على الرقصات والأغاني. يبدو كل شيء على ما يرام، إلى أن تدخل إلى حجرتها في الكواليس بعد التمرين لتنفجر باكيةً: "الضغط يسحقني، وكل شيء يبدو سيئاً". تنتقد أداءها بشدّة ولا تهدّئها تطمينات فريقها. في الوثائقيات التي تصوّر السيَر الذاتية للفنانين، درجت العادة أن تركّز الحكاية على الأمجاد والأضواء وأنجح الحفلات. لكن "عقلي وأنا" يعكس الآية. لا مساحة هنا لتعداد إنجازات سيلينا الفنية، رغم كثرتها، فالأضواء كلها مسلطة على الزوايا المعتمة من حياتها. تعترف الفنانة بأن ثقتها بنفسها وبشكلها متصدّعة: "كبرت مع شعور أنني غير كافية." تلك الصغيرة التي كانت من أبرز وجوه ديزني، وما عرفت سوى المسرح ملعباً، لم تكن تلمح نجمةً عندما تنظر في المرآة. قد يعود ذلك إلى طفولتها التي فقدت خلالها صورة الأب في سن الخامسة، يوم انفصل والداها. توضح في الوثائقي أن لا علاقة تربطها بأبيها مع أنها تشتاقه، ثم تضيف باكيةً: "لطالما كرر لي أنه يحبني وأنني قادرة على تحقيق أي شيء". من التحضيرات لجولة عام 2016 التي انتهت بعد 55 حفلة بدخول غوميز مصحاً للعلاج النفسي، ينتقل الوثائقي إلى مشاهد من قريتها الصغيرة في ولاية تكساس. تعود سيلينا إلى بيت الطفولة في غراند بريري وإلى مدرستها، ثم تجمعها لحظات مؤثرة جداً مع جيرانها القدامى ومن بينهم جارة كانت تقدّم لها الحلوى وتسمح لها باللعب داخل منزلها. لاحقاً، تقرع النجمة باب بيت زميلة في المدرسة، لتجد أنها تزوّجت وأنجبت أطفالاً هم من أشدّ معجبيها. "كان من الممكن أن أكون مكانها... زوجةً وأماً في هذه القرية البعيدة"، تفكّر سيلينا. لكنّ خط حياتها كان مرسوماً سلفاً: "أنا أعمل منذ كنت طفلة. لكني لم أرِد أن أكون مشهورة إلى هذا الحدّ. أرعبتني أمور كثيرة، كبرتُ قلِقة. رافقني ذلك الشعور بأن أدائي يجب أن يكون دائماً الأفضل". صارت سيلينا غوميز ما لم تشأ ربما أن تكون. فُرضت عليها حياةٌ من المجد والشهرة والثروة، لم تُردها بالضرورة لنفسها. لم تعثر على درب فرعي تهرب عبره من الطفلة النجمة، فصارت تحصد مزيداً من النجوم رغماً عنها أحياناً، وعلى حساب صحتها النفسية دائماً. طُلب منها أن تبدو أجمل وأن تلحق الموضة. حاولت أن تتقمص شخصية غريبة عن أناها الحقيقية. في الوثائقي حيث غالباً ما تفكّر غوميز بصوت مرتفع تقول: "تحت غطاء الحياة العظيمة، كنت أعاني". في سن ال26، إنفجرت المعاناة المتراكمة. قلق، كآبة، إضطراب ثنائي القطب، إنهيار عصبي... كلها مصطلحات استحكمت بسجلّ غوميز النفسي. إستسلمت لها بدايةً وأمضت أسابيع طويلة في مراكز العلاج، حتى أن أفكاراً انتحارية راودتها مرات عدة، بشهادة إحدى صديقاتها ضمن الوثائقي والتي تعلن: "كانت تكرر أنها لا تريد أن تعيش". يجد الفيلم في رحلة غوميز إلى كينيا مناسبةً للتطرّق إلى قضية الانتحار، إذ إنها تفاتح هناك سيدةً غريبة بالموضوع، لمجرّد أنها اختبرت الشعور ذاته. لا تختبئ الفنانة في ظل العيب أو الممنوع أو المحظور، فتحكي كل شيء كما لو أنها تحدّث نفسها. لمرةٍ، تسعى أن تكون على حقيقتها أمام الجميع. تسقط عنها مثاليتها، فنراها قاطعةً مع صحافي أزعجتها أسئلته، وباردةً مع صديقةٍ مهتمة لأمرها، ونادمةً على كل ما تسببت به من عذاب لأمها. أما الهدف من تصوير هكذا وثائقي، فتختصره سيلينا بكلمة واحدة: التوعية. تقول في مقابلة مع منصة "آبل تي في": "شعرت بارتياح كبير عندما أفصحت عن كل شيء، وأنا أعلم أنني لست وحدي في هكذا معاناة. يجب الحديث عن أهمية الصحة النفسية وتصويرها كذلك." برأيها، الكلام عن أوجاع الروح قد يشجّع الناس المتألّمين على طلب المساعدة، بمجرّد شعورهم أنهم ليسوا وحدهم في هذه العتمة. لشدّة تركيزه على قضية الصحة النفسية، لا يستفيض الوثائقي في الحديث عن علاقات غوميز العاطفية رغم تشعّبها. وحتى قصتها العاصفة مع المغنّي جاستن بيبر، تعبر سريعاً من دون أن تذكر الفنانة بيبر بالإسم. إذ تكتفي بالقول في كواليس تصوير فيديو كليب "Lose You To Love Me"، الأغنية التي تتحدث عن علاقتهما: "كنت بحاجة للقول إني حزينة. هذه الأغنية هي عن إعادة اكتشاف الذات بعد خسارتها." ثم تضيف مبتسمةً: "المرور بأسوأ انفصال على الإطلاق تحوّل إلى أفضل شيء في حياتي." بعد 90 دقيقية من الاعترافات، تصل سيلينا غوميز إلى نهاية الوثائقي ممتلئةً بذاتها. لم تكتمل الرحلة فطريق الشفاء طويل، لكنها مطمئنة رغم الندوب والتناقضات. مرة جديدة تحدّث نفسها بصوتٍ عالٍ لتقول: "أنا سعيدة حقاً. أنا في سلام. أنا غاضبة. أنا حزينة. أنا واثقة. أنا مليئة بالشك. أنا عملٌ قيد التنفيذ. أنا كافية. أنا سيلينا."
مشاركة :