تردد في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، السؤال عما اذا كانت ايران «دولة» أو «ثورة»، ليأتي الجواب في الختام بأن الأصل هو أن تصبح ايران «دولة» كي يمكن التعامل عربياً ودولياً معها... وهو ما لم يحدث بعد. فهل ايران «دولة» فعلاً، كما هي الدول في العالم، أم هي «ثورة» فعلاً كذلك، على شاكلة المعروف من الثورات في هذا العالم قديماً وحديثاً؟. وفقاً للعلوم السياسية، كما المعاجم التي تعرّف الثورة بأنها «انتفاضة أو تمرد يطيح بحكم ويقيم بدلاً منه حكماً جديداً، وقد يقوم بتغيير النظام الاجتماعي في البلد المعني برمته»، تكون ايران قد شهدت في تاريخها الحديث ثورتين: أولاهما، عندما أطاح محمد مصدق (شعبياً، ودستورياً من داخل النظام) بحكم الشاه الاستبدادي في الخمسينات، ثم انتهت الى ما انتهت اليه على يد الاستخبارات المركزية الأميركية، والثانية عندما قام الإمام الخميني، بدعم قوى إيرانية ديموقراطية ويسارية وليبرالية، بإعادة قلب النظام ذاته في 1979، وانتهت بدورها الى ما انتهت اليه: تفرد الخميني بالسلطة واغتيال أو سجن أو طرد كل من عداه، وعدا فريقه من المؤمنين بولاية الفقيه المطلقة، خارج البلاد. وسيراً مع التجارب التاريخية التي تقول ان الثورات غالباً ما تأكل أبناءها، فالكل يعرف ماذا حل بأول رئيس لايران بعد الثورة، أبو الحسن بني صدر، وبمن خلفه في المنصب، محمد علي رجائي، وحتى بمن كان يشغل منصب نائب المرشد الأعلى، حسين منتظري، لمجرد أن الأخير رفض إضافة كلمة «مطلقة» الى ولاية «الولي الفقيه». وفي مذكرات منتظري، التي نشرت عقب اقالته ثم وفاته بعد سنوات عدة من الإقامة الإجبارية، كتب يقول: «أنا، كما يعلم الجميع، كنت مدافعاً صلباً عن سلطة الدين ومؤسساً لولاية الفقيه (لكن ليس في شكلها الحالي، بل بطريقة تمكِّن الشعب من انتخاب الفقيه ومراقبة عمله)، لكنَّني أشعر الآن بالخجل حيال الظلم الذي فُرض على الشعب باسم الفقيه، كما بالعار وبأنَّني مسؤول أمام الله عن الدماء التي أريقت وعن انتهاكات حقوق المواطنين». منذ ذلك التاريخ، تحولت الثورة الإيرانية الى دولة، بل في الواقع الى دولة فارسية وتوسعية وإن تحت مسمى «الجمهورية الإسلامية في ايران». ولم يعد سراً أنه طرح على الخميني ذات مرة (قيل ان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من فعل ذلك) المبادرة الى استبدال اسم «الخليج الفارسي» باسم «الخليج الإسلامي»، تدليلاً منه على نقاء الثورة وشموليتها وإسلامها، فرد على الطرح بالقول ان الخليج فارسي وسيبقى كذلك على الدوام. وعملياً، ففي سياق هذا التحول، وعلى نسق النازية الهتلرية التي رفعت شعار «نقاء العرق الجرماني»، لجأت الدولة هذه الى أمرين في آن : أولهما، النص في الدستور على أن «المذهب الجعفري» هو دين هذه الدولة، إضافة طبعاً الى «الولاية المطلقة» الدينية والسياسية للولي الفقيه، وثانيهما بدء خطة تسلل مدروسة ومنتظمة، فقهياً ومالياً وسياسياً وعسكرياً، الى دواخل المجموعات الشيعية في البلدان العربية (أحزاب وميليشيات، وأكثر من 200 ألف مقاتل في هذه البلدان، كما قال قائد الحرس محمد علي الجعفري أخيراً) ثم في كل دولة إسلامية تتواجد فيها مثل هذه المجموعات. وفي سياقه أيضاً، ومن أجل الهدف ذاته، جرت عسكرة المجتمع الإيراني (الباسيج والحرس الثوري من جهة والتسليح الثقيل بما فيه الصاروخي وربما النووي من جهة ثانية) كما «فرسنته» لغة وهوية قومية، وتطييفه إسلامياً، ومذهبته شيعياً، على رغم تعدد الإثنيات والأديان والطوائف والمذاهب في ايران، على الطريق الى ما لم يتورع أحد رجال الدين الايرانيين عن إعلانه قبل فترة عن عودة «الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد» الى الوجود، فضلاً عن توسع حدود هذه الامبراطورية الى سواحل البحرين الأحمر والأبيض المتوسط وسقوط أربع عواصم عربية في يدها. وفي موازاة التراجع المريع في أوضاع الشعب الإيراني، لجهة مستوى العيش والعدالة والمساواة وحقوق الانسان (أول وأهم ما يميز الثورات وتغيير أنظمة الحكم)، لا تقول غير هذا في الواقع مواقف الدولة الإيرانية من الحكم القائم في كل من العراق وسورية، ولا من التمرد الحوثي على الشرعية في اليمن... ولا تحديداً في المدة الأخيرة «حربها الشعواء» على المملكة العربية السعودية، لمجرد أنها حاكمت قضائياً ونفذت الحكم برجل دين شيعي من بين 47 مواطناً سعودياً دينوا بتهمة الإرهاب والتحريض عليه في داخل بلدهم. وبهذا، فلا وجود لثورة من أي نوع أو صنف في ايران، انما دولة فارسية بالمعنى القومي الشوفيني للكلمة، وتوسعية على حساب جيرانها وتخريب النسيج الاجتماعي لبلدان هؤلاء الجيران. وعلى هذا الأساس وحده، ينبغي التعامل معها، ليس عربياً فقط بل دولياً كذلك. هي ثورة ضد أوضاعoverthrow of a system of government ناتجة عن ثورة أخرى والعودة إلى الوضع السائد قبل الثورة الأولى كما حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر حيث عاد النظام الملكي إلى بلدان عدة بعد الإطاحة به.
مشاركة :