الوجود أم الفناء الصراع المحموم في رواية موبي ديك

  • 11/25/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تحتل رواية "موبي ديك" الروائي الأميركي الأبرز هيرمان ميلفيل، السارد الأعظم، مكانة مرموقة بين كلاسيكيات الادب العالمى، كما انها تعتبر الملحمة الكبرى، بلا شك، المكتوبة بلغة فريدة عن عالم شديد الخصوصية والتميز، بأسلوب ساحر جذاب يحمل القارئ فوق بساط سردي خصب يجوب البر وما يحمله من أساليب سردية ودلالات ومعان ونكهة خاصة قبل الولوج إلى متاهات المحيطات بما تتضمنه من مياه شديدة الوعورة ورياح فتاكة وحيوانات بحرية مفترسة بأسلوب رائع. تتناول الرواية صراعا تراجيديا بين حوت وانسان، فتتخذ من هذا الصراع الدائم عبر زمن روائي ينتقل بسلاسة بين الأحداث، استخدم فيه كل من الطرفين كل الأساليب والأسلحة في الهجوم والدفاع، هذا الصراع يلقي بظلاله على الآخرين.صراع يحمله بحارة غادروا البر وألقوا بأنفسهم في دوامات البحار والمحيطات حتى يعودوا محملين بقيمة كبيرة تعود عليهم وعلى المساهمين بالخير خلال فترة زمنية طويلة.خرجوا في رحلة لصيد الحيتان بقوانين معروفة وأعراف البحر التي يعرفها القاصي والداني في هذه المهنة محفوفة المخاطر، فإن هذا الصراع الفذ الذي يعتبر وسيلة لتأمل الوضع البشرى وطموحاته والذي اتخذ من سطح المحيط مجالا للنزال والسجال واثبات هيمنة وفرض سيطرة وعلاقته بالوجود، فيتحول إلى كيان رمزي معقد عن كيفية العيش والتكيف مع جو مهنة صيد الحيتان، بما تحمله من دلالات فكرية وفلسفية واجتماعية. تمثل موبى ديك أيضا الكيان الأميركي الذي وجد في رائعة ميلفيل نموذجا من نماذج كاملة تعبر عنه، وتبرز قدراته في منتصف القرن التاسع عشر، أو عندما كانت أمريكا تهيئ العالم لرؤيتها كقوة عالمية وامبراطورية استعمارية جديدة تحمل لواء جديدا، ينطلق من القارة الجديدة لفهم أدوات العالم ومعطياته ومكنوناته حتى تفرض سيطرتها وهيمنتها بالقوة، فكانت موبي ديك تلك النبتة الجديدة التي بُني عليها هذا الكيان السلطوي اقتصاديا وسياسيا وفكريا وفسلفيا واجتماعيا، وبمثابة نبؤة شديدة الخصوصية لكيان عالمي استقى العلوم والخبرات ويحاول أن يوظفها في كل مكان سواء على البر أو فى البحر.تلك النبوءة وضعت بنودها على الماء الذي يحمل في جوفه المخاطر التي تنوء بمواجهتها الوحوش الكاسرة، لكن يحملها الانسان طائعا ومتطوعا لتحقيق تلك الآمال والطموحات التي زرعتها فى وجدانه الأمة، ويخوض صراعات غير متكافئة، لكنها في المقام الأول تبرز قدرته وطموحاته التي هي من نسيج ودستور أمته والتي غزا من أجلها المحيطات، وتعتبر استشرافا وتلميحا رمزيا لما ستصبح عليه القوة الكبرى.  تمثل رواية "موبى ديك" رمزية السلطة الأميركية ورغبتها في فرض السيطرة والهيمنة المطلقة على الدنيا وكل ما فيها، ومما يثير الدهشة أن البطل يعتقد أن مسعاه هذا يحتوى على الحيطة والحذر، وبُني على مشاهدات وخبرات سابقة وأسس علمية تمكنه من تلك المكانة التي يعتقد أنه يتبوأها، مما جعله يؤطر لنفسه مكانة متفردة، مستخدما الامكانيات التي توفرت لديه والتي كانت موجهه للصالح العام، والتي جعلته قادرا على البحث عن موبي ديك في مياه ليس لها أفق ومع ذلك يجده ويدور بينهما صراع محموم. يحوِّل القبطان الهدف العام للرحلة، التي تقوم على حصص يتشارك فيها عدد من الأفراد، والتي بُنيت عليها تلك المجتمعات الساحلية وما يكتنفها من تقاليد وعادات وخبرات، إلى هدف خاص للانتقام من الحوت الذي قضم ساقه، ولم يرضخ لآراء أو توسلات البعض لنسيان الأمر والاهتمام بالهدف العام للرحلة، فالأمر عندئذ يستحق التفسير وإعادة التقييم، فيسوق هذا القبطان رغبة ملقومة بالانتقام لم تفتتها السنوات أو المخاطر التي يواجهها مع طاقمه، فالرحلة تجارية في المقام الأول لتحقيق عائد كبير للشركاء الذين يستثمرون أموالهم في صيد الحيتان، لا تحتمل تلك الرحلة مخاطر إضافية اكثر من المخاطر المعروفة سواء العواصف المميتة أو الأمواج المهلكة أو الحيوانات البحرية التي تدمر تلك السفن.لكن هذا الهدف قد تغير أو بيت هذا القبطان النية من أجل شهوة الانتقام من هذا الحوت الذي انقض على جزء مهم من جسده، فتتصاعد لديه النزعة الانقامية بالدرجة التي تجعله يخطب فيهم خطبة حماسية تؤجج لديهم الرغبة في الانتقام من موبي ديك التي استزرعها قسرا في أفئدتهم، وحاول حينئذ أن يحول الهدف الخاص به إلى هدف عام يتبناه كل من على متن السفينة.واقتطف من الفصل 36 ما يؤيد وجهة النظر تلك:  "الآن، يقف ثلاثتكم أمام ثلاثة.أشيدوا بهذه الكئوس القاتلة! امنحوها فأنتم كونتم عصبة لا يفككها أحد.ها! ستاربك! أُنجز كل شئ! والشمس تشهد على ذلك بأن ترسل أشعتها تصديقا لذلك.اشربوا يا رماة الرمح.اشربوا وأقسموا أيها الرجال يا من تقفون عند مقدمة السفينة التي تترصد للموت، بأنكم لن تجنوا من رحلتكم إلا هلاك موبي ديك! فليقبض الرب أرواحنا، إذا لم نقبض نحن روح موبي ديك!" رُفعت أقداح الأسنة الفولاذية عاليا، وتعالت الصيحات والصرخات وانصبت اللعنات على الحوت الأبيض، واحتست الأرواح جرعات بهسيس.اصفَّر وجه ستاربك واستدار مرتعدا.ثم لف الإناء الذي أُعيد ملئه مرة أخرى بين البحارة المسعورين، وعندما لوح أهاب بيده لهم تفرقوا جميعا بينما عاد هو إلى قمرته."  تعتبر "موبي ديك" من أهم الروايات التي أبدعتها الانسانية، تحكي عن صراع الانسان مع الطبيعة، فقال عنها برنارد شو: "منذ عرف الانسان الكتابة، لم يوجد مثل هذا الكتاب، وعقل الانسان أضعف من أن ينتج كتابا مثله، وإنى أضع مؤلفه في مصاف مؤلفات رابلييه وسويفت وشكسبير." اختلف الكثيرون عن بداية التأريخ للأدب الأميركي الحديث، ومكانته بالنسبة للأداب العالمية الأخرى، لكن اتفقوا جميعا على مكانة "موبي ديك" بالنسبة للروائع العالمية الأخرى فنسوق هنا: "اؤكد لكم أن ارنست هيمنجواى كان مخطئا عندما قال إن الأدب الأميركي الحديث بدأ برواية "هاكلبري فِنْ.إنه يبدأ بموبي ديك، ذلك الكتاب الذي ابتلع الحضارة الاوربية كلها." ى.ل.دكترو."سراب لا يمكن استيعابه" مجموعة مقالات عن رواية "موبي ديك" 2006."لم يتفوق أحد على ميلفيل، أن يفعل مثلما فعل في "موبي ديك"، أن يحكي قصة ويضع فيها كل ما وضع، فاذا وزنت كتابا، فلم أعرف كتابا كبيرا مثله.إنها اكبر من رواية "الحرب والسلام" أو "الاخورة كارامازوف".  "كان ميلفيل يعرف العالم، وينظر إليه من وجهة نظر معينة، مما جعله يخاطر بالكتابة بالنثر الذي يُغنى.وينتاب الإحساس منذ البداية أن رؤية ما تسيطر على عقل ميلفيل بما سيكون عليه الكتاب، ومن ثم وضع ثقة في نفسه واتبعها." كين كيسي "فن السرد"  إن رواية "موبي ديك" من الروايات التي تفجر الخيال والرؤى لدى القارئ وتحمله على أجنحتها ويعيش لحظة بلحظة مع شخصياتها وترتبط احلامه مع أحلامهم، ويتحول بعد ذلك إلى بحار يعمل معهم، يعاني ويحلم ويتفاعل اجتماعيا مع زملاءه.هي موج سردي وإبداعي يرفعك ويتلاعب بك، ويغمرك وربما تغوص وتغرق ثم تخرج مرة ثانية. موبي ديك من الروايات الضخمة التي توفر للقارئ عالما مليئا بالاحلام والوقائع والتاريخ والماضي والشخصيات وأنماط من البشر، وعوالم البحار والمحيطات والحيوانات البحرية بأنواعها، وعالم الحيتان بأصنافه وخصائصه والذي تقوم عليه الرواية.تمثل موبي ديك قيمة أدبية كبيرة من بين الكلاسيكيات العالمية، وهى ربما تضارع رواية "الجريمة والعقاب" لدستويفسكي، والتي كان تشيخوف يؤجل قراءتها حتى يصبح جاهزا لها، ونظرا لأن الرواية شديدة الوعورة وتمتلئ بفقرات عن صيد الحيتان ومعلومات موسوعية فهي تحتل مكانة كبرى نظرا لتفردها وخصوصيتها، وتمثل هوية أمريكا التي تتطلع للمستقبل وتحاول السيطرة على مقدرات شعوب العالم، لدرجة أن أحد النقاد قال إن موبي ديك لم تكتب إلا في أمريكا وفي القرن التاسع عشر تحديدا.وقال البروفيسور هارولد بلوم: "اذا كان هاملت ودون كيخوته هما من يمثلان الهوية الأوربية، فإن والت وايتمان والقبطان أهاب هما من يمثلان الهوية الأميركي ة. ونجد أن كل كاتب يحمل هوية ما أو مضمونا يؤرقه أثناء الكتابة فيقول ميلان كونديرا في كتابة "فن الرواية": "تساءلت مع معاصري سرفانتس عما هي المغامرة، وبدأت مع صمويل ريتشاردسون في فحص ما يدور في الداخل، وفى الكشف عن الحياة السرية للمشاعر؛ واكتشفت مع بلزاك تجذّر الإنسان في التاريخ؛ وسبرت مع فلوبير أرضا كانت حتى ذلك الحين مجهولة، هي أرض الحياة اليومية؛ وعكفت مع تولستوي على تدخّل اللاعقلاني في القرارات وفي السلوك البشري.إنها تستقصي الزمن: اللحظة الماضية التي لا يمكن القبض عليها مع مارسيل بروست؛ واللحظة الحاضرة التي لا يمكن القبض عليها مع جيمس جويس.وتستجوب مع توماس مان دور الأساطير التي لا تهدي، وهى الآتية من أعماق الزمن، خطانا." وقد أشبع النقاد موضوع الحوت درسا واقتراحا وتنظيرا، وتساءلوا عما اذا كان يرمز لشئ؟ وهل يكرس لمسألة العدو الشرس الذى يجب القضاء عليه مهما كانت النتائج؟ وهل هو عدو واحد أم العديد من الأعداء؟ القبطان أهاب شخصية مفكره قلقه، فيرى أن طموحاته شرعية وتستقي شرعيتها من نسق حوادث الماضي، لا يعترف بالنقص والاضطراب الفكري الذي يشوه شخصيته ثم يكون هو نفسه ضحية لهذه النقص فينهش الحوت الابيض قدمه بدون مبرر أو تفسير، ثم تمتلئ نفسه حقدا تجاه الطبيعة نفسها، ويتماس هذا الفكر مع فكر يوجين أونيل الكاتب المسرحي الأميركي الذي كانت مسرحياته الأولى تتناول صراع الانسان مع الطبيعة، ومحاولاته من أجل فرض قوته فوق البحار حتى ولو كانت وعرة وعمقها لا يعرف التسامح أو قبول الأعذار. تخالف تلك الرواية كل ما هو معتاد، مثل روايات القراصنة ومغامرات البحر مثل "جزيرة الكنز" و"تمرد في السفينة باونتي" و"القبطان بلود".ففي كل مرة كان البحارة يثورون على القبطان ويختطفون المركب ويغيرون اتجاه الرحلة، لكن الامر مختلف في موبي ديك، فقد كان القبطان هو من اختطف السفينة رغم أنف البحارة لكي يغير غرض الرحلة، ويحول هدفها الأساسي الذي يتمثل في جمع زيت العنبر إلى هدفها الميتافيزيقي الذي نشأ عن اضطراب فكري ونفسي وفلسفي يقترب من الالحاد. يجزم النقاد أن موبي يدك عندما بدأت في ذهن ميلفيل كانت مشروع مغامرة حيتان، لكن صداقته مع هوثورن التي بدأت عام 1850 جعلت ميلفيل يغير روايته مائة وثمانين درجة ليجعلها رحلة ميتافيزيقية رمزية هي الأشهر في الأدب الأميركي ، وكما أن بوشكين اقترح موضوع رواية جوجول "نفوس ميتة" كذلك فعل هوثورن.ونحسب أن ميلفيل قد أدرك تماما أنه يكتب فنا خصبا مكّنه من إبراز قيمة وجمال النثر في سرده الروائي وهذا يتماس مع ما قاله ميلان كونديرا في حواره في كتاب "فن الرواية" "وإذا كانت الرواية فنا وليست فقط جنسا أدبياً، فالسبب يعود إلى أن مهمتها الانطولوجية تكمن في اكتشافها للنثر، وهذه المهمة لا يمكن أن يؤديها أي فن آخر عدا الرواية بشكل كلي، والنثر ليس فقط نوعا من الخطاب المختلف عن الشعر، بل هو أحد أبعاد حقيقة الواقع، إنه بُعدها اليومي المحسوس، الآني، وهو العنصر المقابل للأسطورة." ونجد أن رواية موبي ديك قد اكتسبت على مر الزمن أهمية أخرى بسبب خصوصية التناول وتفرد اللغة وأيضا اكتسبت بعدا كونيا كما تساءل الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس عن المزايا التي تمنح بعض الروايات في الأدب العالمي بُعدا كونيا من "القصر" لكافكا إلى "موبي ديك" لهرمان ميلفيل و"الضوء في اغسطس" لوليم فوكنر.وربما يجد القارئ الاجابة على تلك التساؤلات بعد قراءة موبي ديك، فسوف يجد علم الحيتان، شخصيات مرسومة ومحملة بفكر خاص، عالم المحيطات، امتزاج الشخصيات بمهنة صيد الحيتان، قوانين خاصة، الخ.وعليه اذن أن يحدد أيهما يمنح الرواية هذا البعد الكوني أم كل تلك العناصر؟ في الفصل 22 يرثى ميلفيل أحد شخصياته التي لم تظهر سوى مرة واحدة في بداية الرواية، حيث كان ميلفيل يريد أن يكتب رواية مغامرات وصيد حيتان واختار لبطولتها شخصية اسماها بولينجتون، ثم حدث وتقابل مع هوثورن وقرأ له وتناقش معه في تلك الأمسيات المختلفة التي قضاها في بيته فيتغير مشروع الرواية، ويطفو القبطان أهاب والحوت الابيض موبي ديك، فلم يكن سهلا على ميلفيل أن يعيد كتابة فصوله السابقة او أن يمحو اسم بولينجتون ففضل أن يتخلص منه وأن يرثيه.  تعتبر موبى ديك جسر ثقافى مهم بين التاريخ البشرى والتاريخ الطبيعي متجسدا في حجم الحوت الضخم وشكلة الشرير يركز في الفصل 17 فصلا من فصول الكتاب الـ 135 على تشريح الحيتان وسلوكها، وتظهر تلك القطاعات الجسدية للحوت من خلال مزيج ساخر من الحقائق المعروفة والتشابهات الرئيسية ويفترض هارولك موروينز اخصائي احياء بحرية في مقاله طريفه أن ميلفيل يعمل طبيب جهاز هضمي أو طبيب مستقيم وشرج للحيتان، ويعتبر كتاب ميلفيل أول وربما آخر عمل أدبي يخصص له فصل كامل للعوالق الحيوانية. يحاول ميلفيل في الفصل الشهير الذي أسماه "علم ودراسة الثدييات المائية" cetology تصنيف فصائل الحيتان.ويشير توماس بيل في كتابه "التاريخ الطبيعي لحوت العنبر" الصادر عام 1839 أن عالم التاريخ الطبيعي الفرنسي بيرنارد جيرماين دولاسبيد رغم وجود ثمانية أنواع من الحيتان، إلا أنه في الواقع لا يوجد سوى ثلاث فصائل هي حوت العنبر وحوت القزم وحوت الصغير، وليس بغريب أن ينشر داروين كتاب "أصل الانواع" 1859 بعد صدور موبي ديك بثمانية أعوام، وقد ذكر ميلفيل داروين مرة واحدة في الرواية، واستعان باقتباس له من كتابه "رحلة عالم طبيعة حول العالم" وكان ميلفيل قد قرأ رواية داروين "السفينة بيجيل" وهو يجهز لروايته "الانكانتاداس" أو "الجزر المسحورة"  شخصية اسماعيل هي شخصية كثيرة الشك والتساؤل والرغبة الشديدة في الحصول على المعرفة الكلية الشاملة، فهو رجل محب للعلم وتتناقض شحصيته بشكل كبير مع شخصية أهاب الانتقامية، المنشغل بمطاردة الحوت الذي دمر حياته.وقد ذكر الناقد ايريك ويلسون في مقال له بعنوان "ميلفيل وداروين والسلطة الكبيرة للوجود: أن مضمون رواية ميلفيل في الأساس يدور حول "زوال الافكار بشرية التمركز" وبدء عهد جديد لرؤى داروين حول التطور البيئي التي يطرحها اسماعيل، ولقد عاصر ميلفيل تلك العملية مع اقرار الفيلسوف الأمريكى رالف والدو ايميرسون الذي يؤمن بالفلسفة المتعالية في مقال "الطبيعة" عام 1836 بأن قانون الاخلاق يوجد في قلب نظام كامل متوافق.صارت تلك النظرية هي الفلسفة الجديدة لميلفيل في شبابه، بينما أشار الكاتب اندرو ديلبانكو في سرده لسيرة ميلفيل أن الأخير قرأ رواية دين هويلز "خطورة الثروات الجديدة" الصادرة عام 1890 التي توضح رؤية داروين الملتوية للمجتمع.كان ينظر إلى موبي ديك نفسها على أنها محاكاة ساخرة لغلو الفلاسفة المتعالين في فكرة العودة للطبيعة، ولكن ميلفيل يقدم ما هو أكبر من مجرد فلسفة ذات نهج نقدي أو حتى استخدام العلم كديكور داخلي، فقد ضخ توليفه رائعة من نبضه الشعري والفلسفي وبين المزاج العلمي المتصاعد في زمنه.صنح بذلك بحس من الكوميديا السوداء التي تفوقت على الفلسفة المتعالية لاثبات أن الطبيعة وعلومها أجمل وأغرب مما كانوا يتصورون.  كان اسلوبه غير المباشر منسجما مع قرن جديد من الاكتشافات، ومع أدباء القرن العشرين التجريبيين مثل د.هـ.لورانس وفرجينيا وولف اللذين أعادا تقييمه كأديب عصرى قبل وجود الحداثة.تتجاوب رائعة ميلفيل بشكل قوي مع الاهتمامات العلمية وتظهر موبي ديك شموخ الحوت أمام تهديدات البشر.وهناك حقيقة علمية تقول أنه في عام 1961 ماتت اعداد كبيرة من الحيتان حوالى 75000، حدث ذلك بما يفوق الأعداد التي ماتت في عهد صائدي الحيتان الأميركي ين (اليانكي) مع ظهور السفن الأسرع والرماح المقذوفة آليا، وظهرت أنواع جديدة قريبة من مرمى الصيادين مثل الحوت الأزرق والحوت الزعنفي.  تحمل موبي ديك مقاطع تأملية ذات نبرة فلسفية وعلى الرغم من النقد الشديد الذي وجه له بسبب هذا الخرق غير المقبول آنذاك في جسد السرد الروائي، فإنه قد فتح الطريق لجيل جديد آخر من الروائيين الذين سيدخلون في أعمالهم تقاليد الاستطراد بتضمين مقاطع فلسفية فكرية ضمن السياق الروائي مثل الكاتبين الألماني ميلان كونديرا والمكسيكي كارلوس فوينتس وآخرين.  أرسل هيرمان ميلفيل برسالة لصديقه ناثانيل هوثورن يقول فيها: "أن يحقق المرء سمعته وخلوده حتى بعد موته أمر فيه ما يقلق، ولكن الأسوأ منه أن يحقق هذا الخلود بوصفه عاش سنوات من حياته مع أكلة لحوم البشر."  

مشاركة :