المملكة تحتاج إلى إنشاء كيان مستقل يخدم صناعة قوتها الناعمة، خصوصاً أن العالم هذه الأيام لديه معاناة صعبة مع الركود والتضخم ويقترب من حافة الإفلاس، وقائمة الدول المتأزمة طويلة.. انتصار المملكة علــــــى الأرجنتين في كأس العالم، قبل عشرة أيام حقق مكاسب كثيرة، من أبرزها التعريف بالثقافة والمجتمع السعودي، فالمبــاراة حضرها في الملعب أكثــــــــر من 88 ألف متفرج، وتابعها ملايين الناس خلف شاشات التلفزيون، وقيمتها تبدو في أنها تمثل الهزيمة الأولى للأرجنتين بعد 36 مباراة، ومنذ العام 2019 وهذه الحقائق الرياضية جعلت الانتصار السعـــــودي يأتي مدوياً، وألزمت الإعلام العالمي والعربي على وضعه في صدارة عناوينه، ومعه تقارير عن المملكة وما حدث فيها من تغيرات خلال الأعوام الأخيرة، وبصرف النظر عما سيحدث في المباريات المتبقية، فما فعله المنتخب السعودي في المباراة ساهم في تعزيز قوة الدولة الناعمة، وفي الترويج لنموذج سعودي جاذب وملهم وطموح، والأهم أن الأدوات والممكنات اللازمة للاستثمار فيه والبناء عليه متوفرة. الرياضة تعتبر من الوسائط المهمة لاستمالة الشعوب، ومن الشواهد، أن حضور فريق سانتوس البرازيلي إلى نيجيريا في 1969، عندما كان الأسطورة بيليه يلعب في صفوفه، ساهم بصورة أساسية في إبرام هدنة، مدتها ثلاثة أيام، بين الحكومة النيجيرية والانفصاليين، حتى يتمكن الطرفان من مشاهدة الفريق البرازيلي، وعمــــلت الرياضة على توحيد الأمة الفرنسية، بعد تنظيم فرنسا لنهائيات كأس العالم وحصولها عليها في 1998، ولجأت الصين إلى دبلوماسية تنس الطاولة لاستعادة علاقاتها المعطلة منذ 20 عاما مع أميركا في 1971. تشيلي يوجد فيها ناد اسمه (بلاستينو) أسسته مجموعة من المهاجرين الفلسطينيين في العام 1920، وقد خدم قضيتهم عند التشيليين وفي دول أميركا اللاتينية، وبصورة تفوقت في تأثيرها على الكلمات والمنابر السياسية، واستخدمت أميـركا الرياضة بذكاء لنشر صـورتها الإيجابية حول العالم، ووسيلتها في ذلك توظيف رحلة أبوللو 14، وقيـام رائد الفضاء الأميركي ألن شيبرد بلعب الغولف على سطح القمر، وجامعة ستانفورد الأميركية قامت بإجراء دراسة على محمد صلاح، لاعب المنتخب المصري وفريق ليفربول الإنجليزي، ووجدت أنه قدم نموذجا مشرفا عن العرب والمسلمين، وساهم في تراجع الإسلاموفوبيا في بريطانيا بنسبة 50 %. القوة الناعمة عبارة منحوتة لا يتجــاوز عمرها الثلاثين عاماً، إلا أن استخداماتها قديمة وحاضرة منذ فترة طويلة، ومن نماذجها، خطة مارشال التي أعلنها الرئيس هاري ترومان في 1947 أو بعد الحرب العالمية الثانية، وقد سميت في الأساس ببرنامج التعافي الأوروبي، ومارشال هو وزير خارجية ترومان، ورصدت لأجل الخطة ميزانية قدرها 13 مليار دولار، وتوزيع المساعدات كان بحسب التعدد السكاني للدولة المستهدفة وقوتها وتأثيرها في محيطها الأوروبي، والخطة ركزت على دعم الطلبة والباحثين والفنانين والمثقفين الأوروبيين، وعلى ضخ كمية كبيرة من أفلام هوليود في أوروبا، وقد استعانوا بلغة قريبة من شباب أوروبا في تقديم المنتجات وأسلوب الحياة الأميركي، وتحديداً في مجالات الثقافة والفن والرياضة والصناعة والاستثمار، علاوة على بناء علاقة قوية مع الأطفـــــال والمراهقين من خلال برامج خاصة بهم، وبمــــا يساعد في تكوين وجدان ومزاج أوروبي متعاطف وموال للأولــــويات الأميركية في المستقبل، والنتيجة معروفة بطبيعة الحال. كوريا الجنوبية تمثل ظاهرة استثنائية ورقما صعبا في خارطة القوة الناعمة، والواجب الاستفادة من تجربتها على الأقل في الجانب الثقافي، وبالأخص فرقة (بي تي إس) صاحبة الشعبية الواسعة في المملكة والعالم، والتي توافد على حفلها في استاد الملك فهد عام 2019 أعداد ضخمة من السعوديين، وقالت مجلة (فوربس) الأميركية إن سائحا من كل ثلاثة عشر سائحا يزورون كوريا الجنوبية بسببها، وأنها رفعت مبيعات الموسيقى العالمية إلى 19 مليار دولار، بالإضاقة لمعزوفة (غاغنم ستايل) التي حققت قرابة خمسة مليارات مشاهدة على يوتيوب، والثانية تراقص عليها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ووصفها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بالمعزوفة الداعية للسلام، وكل ما سبق جاء بموجب اتفاقية كورية مع يوتيوب على تسويق المحتوى الكوري في أميركا، والأعضاء السبعة لفرقة (بي تي إس) تم اختيارهم من بين 80 شخصاً، ودربوا بمعرفة مؤسسات حكومية في كوريا الجنوبية. المملكـــة تحتاج إلى إنشاء كيان مستقل يخدم صناعة قوتها الناعمة، خصوصا أن العالم هذه الأيام لديه معاناة صعبة مع الركود والتضخم ويقترب من حافة الإفلاس، وقائمة الدول المتأزمة طويلة، وتشمل أجزاء من أوروبا وآسيا وأفريقيا وغيرها، وكلها مفيدة من الناحية الاستراتيجية، وبالإمكان تصميــــم خطة مدروسة لمساعدتها على التعافي الاقتصادي، وبما يحقق تبادل الأولويات والمصالح معها في المستقبل، بجانب الاستمرار في المساعدات الإنسانية والمنــــح الدراسيــــة والوساطات السياسية، والاهتمام بالفيلم السعودي الذي بدأ يحضر بقوة، وبالحضـــور الرياضي وتطويره في المحـافل الدولية، وبالإعـلام وأذرعه المسيطرة، وبالمـاركات التجارية المحلية صاحبة الشهرة كالمراعي والبيك وهرفي وغيرها، وكذلك أكـلات المملكة الشعبية ورسائلها المشفـــرة، والمـــواسم السياحية المختلفة في شكلها، والمهرجانات المستوحاة من البيئة والثقافة المحلية، ووزنها التاريخي والاقتصـــادي والسياسي والروحي، وأنها قبلة لأكثر من ملياري مسلم يمثلون معظم جنسيات العالم.
مشاركة :