يرى الفيلسوف المصري عبدالرحمن بدوي أن أرسطو وأفلاطون وجهين لعملة واحدة، فهما ساهما في ضرب الحضارة اليونانيّة، وجعلاها حضارةً زائفةً، إذ عملا على انحرافها عن أصلها الطبيعيّ نحو الأخلاق والاهتمام بالماهيّات في نظريّة المعرفة. واعتبر أنّ هذا ما جعل الفلسفة معهم مثاليّةً، لا تهتمّ بالوجود الحقيقيّ، إنّما تحصر اهتمامها بالصورة، وعلى هذا الصعيد فإنّ أوجه الخلاف بين أفلاطون وأرسطو ضئيلة، إذ الأوّل جعل الصور مفارقةً، أمّا الثاني فقد جعل الصورة والهيولي توجدان معًا، بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، واعتبار أرسطو مثاليًّا مغاليًا بمثاليّته، لأنّه لم يقل إنّ وجود الصورة يجب أن يكون ملازمًا لوجود الهيولي، إلّا لأنّه يريد أن يجعل الوجود الحقيقيّ دائمًا هو وجود الصورة أو الماهيّات، إذ سيكون كلّ وجود في هذه الحالة مرتبطًا بوجود الماهيّة، ما يضفي على الماهيّة قوّةً أعظم في الوجود. وفي كلّ ما قدّم بدوي، لم يكن الهاجس لديه إبراز فلسفة أفلاطون، أو أرسطو، أو غيرهم من الفلاسفة، كالأفلاطونيّة المحدثة، والرواقيّة، وفيلون الإسكندري، بمقدار ما كان منشغلًا بإظهار حركيّة هذا الفكر، ومسيرته من النهضة إلى الانحطاط. وهو في سبيل تثبيت هذه الرؤية قسّم التاريخ اليونانيّ إلى مراحل ثلاث: «مرحلة النشأة»، وتمتدّ إلى سقراط، وفيها تلاقى الفكر اليونانيّ بعقل كبير كشف له عن روح الحضارة اليونانيّة، ما أدّى إلى نهضتها؛ ثم «مرحلة الذروة»، وهي عند أفلاطون وأرسطو، حيث استمرّت هذه الحضارة فاعلةً، تستنفذ ما لديها من طاقة؛ وصولًا إلى «مرحلة الانحطاط» التي أدّت إلى ذوبان روح الحضارة اليونانيّة بالحضارات الوافدة، ففقدت شخصيّتها الخاصّة. وهذا يعني أنّ اليونان قد فقدت فرادتها في التفكير عندما تسلّل إليها التفكير الشرقيّ المشبع بالدين، فصار الدين هو الأخلاق، وفكرة الخلاص هي الفكرة الرئيسة التي ميّزت الفكر الجديد بعد أن تمّ إنكار دين الآباء والأجداد، دين تعدّد الآلهة، وصار الإله الوحيد وسيلةً للخلاص، واتّصف بصفة اللامتناهي، وبذلك اختلفت صورة الإله في الدين الجديد عن صورة الآلهة عند اليونان، فاتّصف الله بصفات لا تناسب الصفات الإنسانيّة، كالأزليّة واللاتناهي، وبات ثَمَّ قطيعة وهوّة بين الإله وبين البشر، وهو ما يخالف العقل اليونانيّ الذي صوّر في أساطيره مدى الاتّصال والتشابه المباشر بين الآلهة وبين البشر. ما أدّى إلى إنتاج وسائط تتّصف بصفات أبرزها أن تكون كائنات عقليّة بحتة، وهي ما سمّيت بالعقول في الفلسفة الأفلاطونيّة، تملك هذه العقول صفاتًا سحريّة تتّصف بما يتّصف به الجنّ أو الملائكة. ونرى هذا التأثير واضحًا في الرواقيّة، لا سيّما فكرة الخلاص من هذه الحياة. كما نراه واضحًا في نظريّة الفيض الأفلاطونيّة، وخصوصًا فكرة ضرورة الوسيط لردم الهوّة الموجودة بين الله وبين البشر. وبهذا الرأي حول الحضارة اليونانيّة يبدو عبد الرحمن بدوي متأثّرًا بأوسفالد شبنجلر، الذي يعتبر الحضارات كالكائنات الحيّة، لها هويّتها الخاصّة التي تميّزها عن غيرها، كما لها ميلاد، ونموّ، وانحلال. فهي تنشأ وتأخذ شكلًا محدّدًا في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتموت عندما تحقّق هذه الروح كلّ ما بها من إمكانات، فترجع إلى مرحلتها البدائيّة. ومن أجل إثبات هذا الأمر، طبّق بدوي نظريّته على الحضارة اليونانيّة، إذ قام بتقسيمها إلى قسمين، الأوّل هو العصر التنويريّ الذي ابتدأ بالسفسطائيّة، تلك النزعة التي قدّمت للمذاهب الفلسفيّة الشامخة في بلاد اليونان، وآمنت بالتقدّم المستمرّ نحو الغاية الأصيلة للإنسانيّة عبر إخضاع العقائد الموروثة لحكم العقل، والدعوة إلى الحرّيّة الفرديّة في الفنّ، والأخلاق، والعلم، والدين. فالسفسطائيّة، بهذا المعنى، حركة تنوير في الحضارة اليونانيّة.
مشاركة :