في معرض ردي على مقال الأخ الشاعر الإعلامي «علي الستراوي» والمعنون بـ «حينما نكتب سيرتنا بألوان الطيف» المنشور يوم السبت 3 / 12 / 2022م في جريدة أخبار الخليج – الملحق الثقافي... أستطيع القول: إن الكتابة في ارهاصاتها الأولى ما قبل انطلاقة الحضارة البشرية حينما كان الإنسان البدائي يلوذ بالكهوف، جرب الرسم على جدرانها ما كان يعتمل في أفكاره البسيطة من روتين يومه، رسم أشكال الحيوانات ثم تعمق في ذاته محاولا استنطاق صراع الأفكار التي تشغله أو حتى الأحلام التي تزور منامه. هكذا كان الأسلاف ثم تدرجنا في سلم الحضارة حتى وصلنا اليوم إلى لوحة مفاتيح الكومبيوتر وبعدها الهاتف الذكي، مع ذلك شغف الكتابة وتلك الشعلة الكامنة في روحها تبقى المحرك الأول. لكن... أن يعتقد المرء لحظة عشقه للكتابة بأن أصابعه ستبقى في منأى عن لسع جمرها، فهذا مُحال، لكون الكتابة في جوهرها مسؤولية تترتب عليها تحديات جمـة ورهانات ربما يكون أخطرها اضطراب موج حياة المرء لما يجد نفسه في خضم العاصفة وتحت اللحظات الحاسمة (أيكون قادرًا على الوفاء بنذور الهوى والاستعداد لدفع الثمن أم سيختار السلامة لنفسه ويفلت من حريق الورطـة؟!). ثمة امثلة كثيرة ربما تحضر في ذهن القارئ حول دفع ثمن الكتابة وما يمكن أن يحدث للكاتب عندما يتمسك بحبره ويصر على الطيران خارج السرب كيفما كانت قناعاته «نتفق معها أو نرفضها» لكنها في النهاية مجازًا «جمـرٌ» عصي على الإمساك به، تمتزج فيه لحظـة اللذة مع القلق، المغامرة والتمرد، القنوط أو الحلم، السفر إلى فراديس أخرى أو التعثر في حُفر الجحيم، هذا ما تفضي به عوالم الكتابة التي تقرأ ما حولها في زحام هذه الحياة.. يقول الأديب العالمي «فيكتور هوجو»... كل صخرة هي حرف وكل بحيرة هي عبارة وكل مدينة هي وقفـة، فوق كل مقطـع وفوق كل صفحة لي هناك دائمـًا شيء من ظلال السحب أو زبد البحر. هكذا نقرأ عوالم الكتابة ونعيش اشتعالاتها، فالشاعر والكاتب والمثقف، يقف من وراء خندقـه يبحث عن تلك اللحظة الفاصلة التي ينجح فيها في قنص الفكرة العبقرية التي ستغير مسار حياته. لفت نظري أحد الكتاب الشباب المبتدئين وهو يتساءل عبر صفحة أدبية على موقع «فيس بوك» يسأل عن كيفية إيجاد فكرة رواية يمكن أن يكتبها وتكون غاية في العبقرية لم يسبقـه أحد إلى ابتكارها؟! بلا شك سؤال عفوي ولكن بذات الوقت يدل أيضًا على قلة الخبرة في استيعاب «ماهية الكتابة»؟! اليوم الكاتب في الوسط الثقافي من الصف الثالث أو حتى الخامس في ترتيب انتشاره الإقليمي، ربما يبلغ الخمسين عامـًا وهو لا يزال يكدح في أرض الكتابة يصارع التهميش يبحث عن ضوء الشمس وسط غابات كثيفة من ألوف مؤلفة من الكتاب وربما يدركه الرحيل قبل الفوز بجائزة ادبية مهمة. لذلك... ليس من السهل أن يكون المرء كاتـبًا، حيث لا أجد شخصيـًا بعد حوالي ثلاثين عـامًا مرت من عمري أن يكون القارب الذي يحملني فوق الموج مستقرًا بما يكفي لأن اعتبر الكتابة لعبـة سهلٌ الدخول إلى بلاطها الملكي المهيب، فما أجهله أكثر مما أعرفه عنها، الكتابة ليست هذيان المغامرين الباحثين عن الوجاهة الاجتماعية أو الهرولة لأندية الجوائز الأدبية المشهورة، وليست تسلية عابرة للطارئين ولا مزاح الأثرياء الذين يريدون شراء كل شيء بما في ذلك موهبة الكتابة؟! لنكتب فنحن في حاجة إلى حُلم يسري مسرى الدم في عروقنا، نؤمن به ونقاتل في سبيله... «على الكتابة أولاً أن تمنحنا فرصة للحلم وإلا فلن تكون إلا مجموعة من الكلمات التي شأن لها» - واسيني الأعـرج. ربما عمـرٌ واحدٌ لا يكفي لأيما كاتب أن ينجح في اختبار الكتابة ذاتها فيترك بصمة فارقة قبل رحيله عن وجه الأرض، هنا يكمن مأزق الكتابة التي يستسهلها الكثيرين ولم تنضج تجاربهم بما يكفي لكن ثمة أصوات تدرك سر اللعبـة وتتمسك بجذوة نار المعرفة وتبدأ الطريق في عـزم وإصرار على النجاح مهما كان الثمن.
مشاركة :