أستكمل اليوم سلسلة مقالاتي "ومضات إدارية" على صحيفتنا الغراء الحدث، بمقالة بعنوان الأيدي المرتعشة لا تصنع قرارًا، أتطرق فيها لعدد من قراءاتي وتجاربي الشخصية وخبراتي العلمية وممارستي العملية في مجال الإدارة والقيادة المبنية على دراسة أكاديمية في مجال العلوم الإدارية المختلفة، وأستعرض في مقالة اليوم مجموعة من التجارب الشخصية والممارسات العملية والحكم الإدارية التي خرجت بها من ميدان العمل الإداري على مدى ثلاثين عامًا، أسردها عليكم في هيئة ومضات: - من كان لديه إرث جميل يتركه بعد رحيله فهو لم يرحل قط بل يعيش حيًا بيننا في قلوبنا وعقولنا وكذلك هو الوزير والسفير والشاعر والروائي الدكتور غازي القصيبي رحمه الله فأثره وعلمه وكتبه باقية في وجداننا وعقولنا حتى تقوم الساعة، وخير دليل اعتماد وزير التعليم كتابه "حياة في الإدارة" ليكون ضمن منهج مادة المهارات الإدارية المقررة في المرحلة الثانوية، وبالأمس القريب الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) تسمي مسجد المركز الاقتصادي الجديد في مدينة الجبيل الصناعية باسم غازي القصيبي رحمه الله عرفانًا بفضله، حيث كان د.غازي رجل دولة من الطراز الأول والنادر وعلَمًا وأستاذًا في علم الإدارة. - زار وزير التعليم د. محمد أحمد الرشيد رحمه الله (أفضل وزير في تاريخ وزارة التعليم من وجهة نظري) إحدى المدارس ولم يجد مديرها في المدرسة أثناء الزيارة، فكتب في سجل الزيارات: "أخي مدير المدرسة حضرت إلى مدرستكم ولم أجدكم، ولكني وجدت أثركم كريح العود نشمه ولا نراه"، يالها من عبارات ساحرة تكتب بماء الذهب وأسلوب راقٍ في فن القيادة والتحفيز جدير بأن يُعلم في الجامعات وكليات الإدارة ويعمم على جميع الوزارات والإدارات للعمل بموجبه. - التنمر الرئاسي: مرض إداري يمارسه بعض مديري ورؤساء العمل بهدف السيطرة والهيمنة على مرؤوسيهم، ويكون على شكل ضغوط نفسية حيث يتعرض الموظف للأذى النفسي بالتهديد بالخصم من الراتب أو النقل أو الفصل المؤقت أو النهائي وغيرها من الأساليب اللاأخلاقية، لدرجة يجبر الموظف قهريًا على ترك العمل وتقديم استقالته. - من أبغض الأساليب الإدارية التي يسلكها بعض المسؤولين هو التسلق على أكتاف الموظفين بسرقة أفكارهم وتجيير مخرجاتهم وجهودهم لنفسه وإبقاء المبدعين في الظل، وفي ذلك النقيض لدور القائد الفذ الذي يبرز تميز موظفيه ويشجعهم لمزيد من الأفكار والنتائج الإبداعية التي تصب في مصلحة المنظمة ككل لا لمصالحه الشخصية. - رسالة إلى كل مسؤول في مختلف المستويات الإدارية ولي أمرًا من أمور المسلمين: احذر من دعاء المصطفى ﷺ فدعوته مستجابة لا محال، فقد قال ﷺ: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به"، وقال ﷺ: "إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه"، والله مطلع عليكم رقيبٌ عليمٌ خبير. من المشاهد الكوميدية في مواقع العمل الإداري المكتبي قيام بعض الموظفين بترك نظارته الطبية أو الشمسية أو مجموعة مفاتيح على مكتبه لإيهام الآخرين من رؤساء وزملاء ومستفيدين بتواجده في مقر العمل والواقع غير ذلك، ولي قصة مع أحدهم عندما مررت يومًا على أحد الزملاء ولم أجده في مكتبه ولكن شاهدت مجموعة مفاتيح على طاولته، ذهبت ورأيته بعد أيام وبعد السلام والتحية أخبرته بمروري على مكتبه، قال لي: كنت خارج الإدارة، قلت له: ولكن مفاتيحك كانت على الطاولة، وبدأت أنصحه وأشرح له خطورة لو أن أحدًا أخذها ونسخها وسرق سيارته أو دخل منزله وهو في العمل، احمرَّ وجهه خجلًا وقال لي: الصراحة هذه مجموعة مفاتيح قديمة لسيارة بعتها ولشقة نقلت منها وأضعها للتمويه فقط، ضحكت وقلت له: هذه إستراتيجية إدارية حديثة اسميها إستراتيجية التفكير الإبداعي في أحد أنواع الفساد الإداري. - لماذا كلما قصَّر أو أخطأ مسؤول كبير منصبه كان أو صغيرًا سخَّر البعض من المواطنين أنفسهم للدفاع عنه وكأنهم موظفون في إدارة العلاقات العامة للجهة التي يعمل بها المسؤول، وكأني بالبعض يعتقد بأن دفاعه عن مسؤول هنا أو هناك سيضمه لعضوية عُلية القوم والوجهاء ورجال الدولة، وكأن من ينتقد نقدًا بناءً من أجل الإصلاح والتطوير والتجويد ولعدم تكرار الأخطاء يُصنف من الرعاع والبسطاء والعامة، لا وألف لا ياسادة يا كرام أفيقوا من أحلامكم ومن المزايدة على حب الوطن وولاة أمره، فدور المواطن عندما يخطئ مسؤول أن يصل بالأمر إلى القيادة والإدارة العليا، ليعلم ويشعر المقصر أنه أرتكب خطأً في الأمانة الموكلة له، وكما يقال: "عندما يسقط ابنك على الأرض ويكون بخير فلا ترفعه بل دعه ينهض بنفسه فلن تتواجد معه في كل مرة يسقط"، وأيضًا المسؤول ندعه يعلم جيدًا أين قصر وأخطأ ليتعلم ثم يتدارك وينهض من جديد. - مع إنتشار سلوكيات أخلاقية خاطئة في بيئات العمل لدى كثير من الموظفين كالسلبية والتبعية والاتكالية والتسيب والإهمال والكذب والنفاق والوقاحة والوشاية ونقل الكلام بين الموظفين وكلام الموظفين للرؤساء، أصبح الأدب لدى القلة ملفتًا للنظر ونادرًا. - المنتقدون كُثر والمصلحون قلة: رسم فنان لوحة و ظن أنها الأجمل على الإطلاق، فأراد أن يتحدى بها الجميع فوضعها في مكان عام وكتب فوقها العبارة التالية: "من رأى خللًا ولو بسيطًا فليضع إشارة حمراء فوقها"، عاد في المساء ليجدها مشوهة بإشارات حمراء تدل على خلل هنا وهناك لدرجة أن اللوحة الأصلية طمست تمامًا، ذهب الرسام إلى معلمه يشكي له وقد قرر ترك الرسم لشدة غضبه، فأخبره المعلم بأن يغير العبارة فقط، رسم الفنان ذات اللوحة ووضعها بذات المكان ولكنه وضع ألوانًا وريشة وكتب تحتها العبارة التالية: "من رأى خللًا فليمسك الريشة والقلم ويصلحه"، فلم يقترب أحد من اللوحة حتى المساء، وتركها أيامًا ولم يقترب منها أحد، فقال له المعلم: كثيرون الذين يرون الخلل في كل شيء، ولكن المُصلحون نادرون، وهذا هو حال كثير من الموظفين يرون الأخطاء ولا أحد يحرك ساكنًا ولا أحد يقدم الحلول، ويبدعون فقط في الانتقاد. - من أجمل قواعد النجاح وتحقيق الذات في العمل أن لا تنتظر المديح من الآخرين رؤساءً وزملاءً ولا حتى مرؤوسين، اعرف قيمتك حتى لو لم يقدرها الآخرون ولا تنتظر ثناء أحد، أن تعرف قيمة ذاتك أمر في غاية الأهمية، ولكي تواصل مشوار النجاح عليك أن تكون في أعلى مراحل تحقيق وتقدير الذات لأن ربط نجاحك بتقدير الآخرين يفقدك أحيانًا دافعية النجاح ومحفزات الإنجاز، لأنه يتوقف على ثناء وشكر الآخرين. المستشار والكاتب عضو الجمعية السعودية للإدارة محمد بن سعيد آل درمة
مشاركة :