على مشارف نهاية عام، وبعيدا عن قضايا السياسة المجردة، نود أن نتوقف قليلا أمام إشكالية الحضارات الإنسانية، ومستقبلها، والنظر إليها من منظورمغاير لرؤية هنتنجتون، عالم الإجتماع، منظور يتساءل عن مستقبل حضاراتنا الإنسانية المعاصرة وإلى أين تمضي؟ وهل هي في طريقها للازدهار أم الانهيار؟. لعل أفضل من تصدى للجواب عن أسباب نشوء وارتقاء، ثم انهيار واندثار الحضارات عبر التاريخ، المؤرخ العربي الكبير إبن خلدون (1332-1406)، عالم الاجتماع الذي سبق الكثيرين في الغرب. ومن بين الذين كرسوا جهدا تنقيبيا كبيرا في هذا الإطار يأتي المؤرخ الانجليزي الشهير “إدوارد غيبون”، (1737-1794)، وهو صاحب السفر الكبير “اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية”، بأجزائه الثلاثة. ثم يحل في الترتيب ثالثا المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889-1975)، صاحب المؤلف العمدة “دراسة للتاريخ”، والذي خبر كيف أن الحضارات العظيمة لا تموت قتلا، وإنما انتحارا، فهل يعني ذلك أن الحضارات غالبا ما تتحمل مسؤولية تدهورها؟ المؤكد أن هناك أسبابا عديدة تجعل السوس ينخر في جدران تلك الحضارات، غير أن القاسم الأعظم المشترك بينها جميعا، إنما هو انهيار الأخلاق، الأمر الذي يسمح بالتفاوت الطبقي والاجتماعي، ويبرر تاليا اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويفتح الأبواب واسعة ويشرعها للتمدد الامبراطوري، والذي عادة ما يتسبب في كتابة السطور الأخيرة من تاريخ أمم سادت وبادت. ما هي الأخلاق وكيف لنا أن نوصفها؟ باختصار غير مخل تبقى الأخلاق مجموعة من القواعد التي يحاول من خلالها المجتمع أن يحض أفراده ومؤسساته على الالتزام بسلوكيات وتصرفات متسقة مع نظام هذا المجتمع وأمنه ونموه. في هذا الإطار يمكن للمرء – والعهدة هنا على الراوي المؤرخ الأمريكي الكبير وول ديورانت – أن يتفهم كيف استطاعت المقاطعات اليهودية التي عاشت في ظل دول مسيحية غربية ولنحو ستة عشر قرنا، أن تحافظ على اتصالها وسلامها الداخلي باتباعها لكود أخلاقي صارم ومفصل، دون مساعدة تقريبا من الدولة أو قوانينها. السؤال المنطقي التالي: هل غياب الأخلاق هو بداية أفول الإمبراطوريات والحضارات عبر التاريخ؟ ربما يتعين علينا بداية الأمر أن نعود قليلا إلى الوراء، مع انطلاق الثورة الصناعية، تلك التي مكنت الأفراد من زيادة الاعتماد على الذات، وليس على القبيلة أو الأسرة في توفير متطلبات الحياة. في تلك الآونة لم يعد على الشباب الثائر أن يرضخ لقيود ومراقبة القرية، صار بإمكانه أن يخفي خطاياه وهويته في زحام المدينة وكثافة سكانها. لقد رفع العلم التجريبي بتقدمه، سلطة الأوراق البحثية على سلطة النصوص الدينية، وبدا الاعتماد على الآلات وميكنة الصناعة والاقتصاد، يشير إلى الفلسفات المادية، وصار التعليم يولد شكوكا دينية، وفقدت الأكواد الأخلاقية الغيبية شيئا فشيئا حضورها، وبدأ الكود الأخلاقي الزراعي يحتضر. كيف يمكن إذن أن يكون مصير الأخلاق في اللحظة الآنية عبر عالمنا المعاصر، حيث ثورة الذكاء الاصطناعي، والروبوتات والعقول الإلكترونية، جاوزت المدى؟ لا يمكن تقديم جواب من غير التوقف أمام عجلة الحروب التي تدور مؤخرا ومن جديد بأشكال متباينة، حروب اقتصادية، حروب ثقافية، حروب إيكولوجية، وصولا إلى الحروب العسكرية، والتي باتت اليوم سيفا مسلطا على رقاب البشرية. في السياق التاريخي لمنتصف القرن الماضي وبعد حربين عالميتين، نجد مقاربة شديدة مع ما جرت به المقادير في زمن الفيلسوف اليوناني سقراط (399 قبل الميلاد )، وفي زمن أغسطس قيصر(14 ميلاديا )، فقد أضيفت الحروب للأسباب التي أدت إلى التراخي الأخلاقي. بعد الحرب البيلوبونيسية والاضطراب الاجتماعي الشديد الذي سببته، لم يشعر”ألكيبيادس”، رجل السياسة والخطيب والقائد العسكري الإغريقي البارز من أثينا القديمة، بالحرج في أن يستهين بكود أجداده الأخلاقي، كما لم يتورع “ثيراسيماخوس السفسطائي الإغريقي أن يعلن أن “صاحب القوة” هو الذي يحدد ما هو الصواب. يمثل غياب الأخلاق انعدام الوازع الماورائي، ولهذا انتشرت في أوربا وأمريكا في خمسينات وستينات القرن المنصرم الحركات الإلحادية تارة، واللاأدرية تارة أخرى، وأخضع كل شيئ لمنطق العقل والتجريب، وتوارت قضايا الروحانيات والإيمانيات خلف مخاوف من مواجهة نووية مع الاتحاد السوفييتي، أي أن قسما غالبا من المجتمعات فضل الهروب من فكرة الكود الأخلاقي، التي تمثل عبئا على كاهل من يحمله. بعد نحو سبعة عقود من التفلت الأخلاقي وتحت أجنحة العولمة، تبدو الحضارة الإنسانية المعاصرة أمام مشاهد مشابهة لما حدث في زمن الإمبراطورية الرومانية، لا سيما ما أسماه المؤرخ الأمريكي الشهير “بول كيندي”، فرط الامتداد الإمبراطوري، أي التوسع الإمبريالي المرتكز على القوة العسكرية فقط، ومن غير أي رؤى أخلاقية داعمة أو مساندة. ثم وهذا ما نعيشه في حاضرات أيامنا، أي التدهور البيئي والمناخي، وليس سرا أن الأزمة الإيكولوجية المعاصرة والتغيرات المناخية باتت تهدد الكرة الأرضية بما هو أخطر من إندلاع الحرب النووية. ولعل السبب الرئيس وراء التهديد الإيكولوجي هو غياب إلى درجة اضمحلال الطرح الأخلاقي، ذلك أن السعي وراء مراكمة رؤوس الأموال وتعظيم الأرباح، هو ما يدفع في طريق استخدام أدوات الطاقة المهلكة للبيئة، لرخص ثمنها وسهولة الحصول عليها. كانت الأمراض والأوبئة من بين الأسباب التي جعلت الرومان ينهزمون أمام القوطيين واجتياحهم لروما في عام 410، ومع عدم المقدرة على التوصل إلى لقاحات وعقاقير، واستمرار هجمات الفنداليون عام 455، تبخرت قوة الإمبراطورية التي قاربت سيطرتها على نحو خمسة ملايين كيلومتر مربع من جغرافيا العالم القديم . أما التفاوت الطبقي وازدياد الفجوات بين الأثرياء والفقراء، فمرده أخلاقي ووازعه الجشع والطمع، وعنوانه اللاعدالة في توزيع الثروات، وجميعها تنتج عن غياب الرؤية الأخلاقية الإنسانوية، حتى وإن كانت مجردة عن التوجهات الدينية والعقائدية. عند الفيلسوف الأسباني الأصل الأمريكي الجنسية “جورج سنتيانا”: “الذين لا يقرأون التاريخ كفيلون بأن يكرروا أخطاءه”. هل من صحوة أخلاقية قبل انهيار الحضارة الإنسانية المعاصرة؟
مشاركة :