رغم أهمية كتاباته المتعددة إلا أن الانقلاب الحقيقي الذي أحدثه عالم المستقبليات الأمريكي ألفن توفلر (1928-2016) حول العالم تمثل في كتابه الذي صدر عام 1980 تحت عنوان “الموجة الثالثة” (Third Wave). ما الذي يقصده توفلر بهذا المصطلح المثير؟ يري “توفلر” أنه منذ بدء الخليقة حتى الآن، عرفت الإنسانية موجتين كبيرتين من التغيير، كل منهما ألغت إلي حد كبير، ثقافات ومدنيات سابقة، وأحلت محلها صور حياة لم تكن تدركها الأجيال القديمة. أما الموجة الأولي، أي الثورات الزراعية، فقد امتدت آلاف من السنين، وأما الموجة الثانية، فتعني انطلاق الحضارة الصناعية، فقد اقتضت نحوا من ثلاثمائة سنة، وكانت كافية. فيما اليوم، فإن تسارع خطوات التاريخ، أكثر بروزا، ومن المرجح أن تقوم “الموجة الثالثة” وتصبح واقعا مقررا، خلال عدة عشرات من السنين، وعلي ذلك فإن الذين سيكونون هذا الكوكب في مثل هذه اللحظة الحرجة، سيعيشون ويشهدون صدمة الحضارة الثالثة. يرسم توفلر منذ أوائل الثمانينات صورة غريبة أحيانا، مخيفة في أحيان أخرى، عن عالم الغد، وحضارة المستقبل. إنها حضارة نتاج الموجة الثالثة، صورة الحياة فيها تتجدد بأصالة وتستند إلي موارد متنوعة من الطاقة، قابلة للتجدد، وطرق إنتاج تستبدل بأكثر سلاسل التصنيع المعهودة في المصانع الحالية، نموذجا جديدا للصناعة، وصورة من الحياة العائلية، تتميز بعلاقات أكثر رخاوة (أو حرية)، وبمؤسسة لم يرها أحد من قبل يمكن أن نسميها باسم “البيت الالكتروني” وصورة من التربية طريفة جذريا، ومصانع وشركات الغد. الحضارة الجديدة الناشئة عن “الموجة الثالثة” تقدم صيغة جديدة للسلوك، تدفعنا بعيدا عن طريق الإنتاج الموحد، ونوعا من التزامن والمركزية وإن شئت قل التمركز، يتخطي بدرجة كبيرة ما نسميه تكثيف الطاقة، والمال والسلطة. وباختصار غير مخل، تملك هذه الحضارة الجديدة، مفاهيمها الخاصة، في الزمان والمكان، والمنطق والسببية، وكذلك تملك مبادئها الخاصة فيما يتصل بسياسة الغد. لماذا ينظرون إلي “توفلر” في الغرب عموما، وليس في أمريكا فحسب نظرة ملؤها التقديس والإعجاب الفائقين؟ الجواب يسير، ذلك أن هذا “التروتسكي” قد رأي مثل زرقاء اليمامة مستقبل الاشتراكية، وكيف أنها لابد وأن تصطدم بآليات وفاعليات حضارة الموجة الثالثة، وكان بالفعل أول ما تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه بعقد من الزمان، وقدم دلائل علمية وذكية تؤيد تصوراته وتدعم بقوة احتمال انهيار وشيك. لكن السؤال… كيف رأى الرجل الحتمية القدرية لانهيار الاشتراكية كمنطلق رئيس للشيوعية العالمية؟ فى تقديره أن انتهاء الاشتراكية فى الشرق أو زوالها، الذى تم على أرضية مؤلمة من إراقة الدم فى بوخارست، وباكو، وبكين، لم يكن أمرا من قبيل المصادفة، إذ قد دخلت الاشتراكية، فى مرحلة الاصطدام بالمستقبل. لم تسقط الأنظمة الاشتراكية بفعل المؤامرات التى حاكتها الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA )، أو بسبب محاصرة رأسمالية، ولا بسبب اختناق اقتصادى أعد من الخارج. لم تكن دول حلف وارسو فقط التى تنبأ “توفلر” بوصفه واحدا من جماعة المتنبئين الاجتماعيين الذين عرفهم الغرب والشرق فى المائة عام الماضية، من أمثال العظماء، اشبنجلر، توينبى، برديائيف، سوروكين، والذين استشرفوا النهايات التى يمكن أن تكون درامية للغرب بحواضره وعوالمه، وما سيجرى فى عواصمه. كان تركيز “توفلر” على الولايات المتحده الأمريكية بنوع خاص، وقد ذهب إلى أنه بعد نحو ربع قرن من انهيار الاتحاد السوفيتى فإنه على العالم أن ينتظر انهيار الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وتفككها إلى ولايات مستقلة… لماذا هذا ؟ ربما يتعين علينا قراءة رؤية توفلر لأمريكا، إذ تقودنا إلى فهم عميق للإشكاليات التى تواجهها واشنطن مؤخرا. يقول “توفلر” إن قائمة المشكلات التى تجابه مجتمعنا، لا نهاية لها، ونحن نعانى من التفسخ الأخلاقي لحضارة صناعية، شبه ميتة نرى فيها مؤسسات تنهار واحدة بعد أخرى بسبب الطبقية والفساد المتشابكين تشابكا عنيفا، وهكذا فإن الجو العام يميل إلى الجفاف والمطالبة بتغيرات سياسية. و يستدرك “توفلر”… كان لدينا رد على كل هذا البؤس… آلاف من الاقتراحات التى تحسب كلها أنها أساسية، بل وثورية أيضا. ولكن يبقى أولا وأخيرا أن القواعد والقوانين والتنظيمات الجديدة، والخطط والممارسات المقدر أنها ستحل مشاكل أمريكا تحمل فى طياتها باستمرار، آثار ردود الفعل المتبادلة، ولا تؤدى إلى زيادة خطورة الأوضاع، فضلا عن أنها تغذى الشعور بالعجز، وتقدم الانطباع بأنه ما من شئ سليم فى حياتنا. يستلفت الانتباه في رؤية “توفلر” للحياة السياسية الأمريكية وكيف أنها باتت معركة دائمة بين “سيافى حزبين سياسين”، غير أن الأمريكيين يصبحون أكثر فأكثر انزعاجا، يعضهم الإرهاق بالنيابة، ويتضايقون من الصحافة والساسة معا، أما السياسة المنحازة، فإنها تبدو لأكثرية الناس مسرح ظلال غير نزيه، ومكلفا ومفعما بالفساد. هل تزعج تنبؤات “توفلر” الأمريكين بالفعل؟ ذلك كذلك، فالمفكر الأمريكى الراحل، يسوق فى إطار نظرياته المستقبلية احتمالات عدة لسيناريوهات تفكك وانهيار الولايات المتحدة الأمريكية، وفى مقدمتها الصراع العرقى وثورة الأمريكيين الأفارقة على نحو خاص، وهو ما نراه بشكل واضح فى الأعوام الأخيرة، عطفا على مطالبة بعض الولايات الكبرى مثل تكساس بالانفصال عن الاتحاد الفيدرالى، وهى رؤية لا تختلف كثيرا عما ذهب إليه من قبل المؤرخ الأمريكي، بول كيندى، فى تنظيره لنهاية زمن الإمبراطورية الأمريكيه. يوجه “توفلر” انتباه العالم إلى ازدواجية الحياة السياسية الأمريكية، تلك التى تحمل شعارات من أجل دمقرطة العالم، فى حين يرى فى رسالة مجازية كتبها إلى الآباء المؤسسين أن الديمقراطية الأمريكية الحالية منقوصة وأن واشنطن ليست “امرأة قيصر” التى لا تخطئ. فى رسالته يطالب “توفلر” الآباء الأمريكيين بأن يتفهموا الحاجة الماسة إلى تغييرات، ليس سببها اقتطاعات واضحة فى الموازنة الفيدرالية، أو لإبراز هذا المبدأ المحدود أو ذاك، ولكن من أجل توسعة مجال إعلان الحقوق، مع الأخذ بعين الاعتبار تهديدات كانت خارج دائرة التصور. وكانت سيئة تثقل كاهل الحرية. ومن أجل خلق بنية جديدة لحكومة قادرة على اتخاذ قرارات ذكية وديمقراطية لا يستغنى عنها،…” إذا أردنا البقاء على قيد الحياة فى أمريكا… أمريكا الموجة الثالثة… أمريكا القرن الواحد والعشرين”.
مشاركة :