يكاد العنوان المتقدم أن يظن به الخطأ المطبعي أو خطأ الصياغة، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت هي الحاضنة الكبرى للدولة العبرية، إذ إعترفت بها بعد ساعة واحدة من إعلان ميلادها، وهاهى طوال سبعة عقود هي عمرها المغتصب للحقوق الفلسطينية تتمتع بالدعم غير المحدود من واشنطن، ناهيك عن الحماية بكل أشكالها وألوانها ماليًا وعسكريًا، أمميًا وأدبيًا، إقتصاديًا وإعلاميًا، ولهذا فإنه لا يستقيم أبدًا القول أن واشنطن يمكن أن تضحى عند لحظة تاريخية ما هي المهدد الأول لاسرائيل. غير أن حقائق الأمور والتي قد تُخفَى عن الأنظار، قد تحمل لنا ما لا يمكن للمرء أن يتوقعه في حاضرات أيامنا على نحو خاص، وعلى غير المصدق أن يتابع معنا بعض من دلالات البيانات التي نشرت في الداخل الأمريكي مؤخرًا وتعكس في مجموعها مخاوف هائلة وتهديدات متراكمه بالنسبة للإسرائيليين. في أواخر شهر فبراير شباط المنصرم نشرت رابطة مكافحة التشهير الأمريكية الشهيرة (ADL) وهي منظمة يهودية تعيش على الأراضى الأمريكية وجل هدفها الدفاع عن الشعب اليهودي داخل أمريكا وخارجها، نشرت تقريرها السنوي والذى جاء يحمل أرقامًا مزعجة عن زيادة الكراهية ضد اليهود وممتلكاتهم في الولايات المتحدة. بداية نحن ندين الكراهية فهى العكس والضد من المحبة، ولن يستقيم العالم طالما بقيت مشاعر الكراهية هي السائدة سواء أكان الأمر منسحبًا على يهود أمريكا أو على غيرهم من البشر حول العالم، غير أننا هنا نحاول فقط إلقاء الضوء على واقع حال يهود أمريكا، انطلاقًا من أن هولاء كانو ولا يزالوا بالطبع السند والعضد الأول لدولة إسرائيل، وكلنا يتذكر قول “بن جوريون”: “إن ما جرى في العام 1956 أي ضغوطات أيزنهاور على الاسرائيليين للإنسحاب من سيناء لن يتكرر مرة ثانية”، وقد استخدم في ذلك النفوذ الخاص بيهود أمريكا في علاقاتهم مع أعضاء الكونجرس من الشيوخ والنواب، وبحيث لا يصدر تشريع يمكن أن يعرض أمن إسرائيل للخطر مرة وإلى الأبد. لكن تقرير رابطة مكافحة التشهير عن العام الماضى 2017 يقول بأن هناك زيادة قدرها 57% في الاعتداءات على خلفية معاداة السامية التي سجلت في أنحاء الولايات المتحدة، وبحسب التقرير فإن هذا المعطى هو الأعلى منذ قرنين. وبمزيد من تحليل وتفكيك الأرقام يرشح لدنيا مايلي: 1986 جريمة كراهية ضد اليهود وممتلكاتهم خلال 2017 مقارنة بـ 1267 جريمة ارتكبت عام 2016، وضمت الاعتداءات التي جمعتها الرابطة 952 جريمة تخريب، و1015 مضايقة على خلفية معاداة السامية، و163 حادثة تهديد لتفجير مؤسسات يهودية في الولايات المتحدة. ماذا يعني ما تقدم؟ ربما نجد الجواب عند “جونتان غرينبلت” رئيس الرابطة، وهو يرى أن المرد الرئيس وراء هذه الأرقام المزعجة، هو الطمأنينة التي باتت تشعر بها منظمات اليمين المتطرف في البلاد. والشاهد أن “غرينبلت” صادق في رؤيته وتحليله سيما وأن تلك الجماعات ذات النزعات العنصرية يزداد حضورها وتسعي في طريق العنف تجاه كل من يخالفها اللون أو العرق أو المعتقد الديني، وعند الكثيرين أن ولاية دونالد ترامب يمكن أن تكون أفضل مناخ لها، فالرجل وعلى سبيل المثال يحمل ما يمكن أن نطلق عليه أحقادًا تاريخية تجاه فئات إنسانية بعينها في المقدمة منها ولا شك المسلمون، فلماذا لا تظهر جماعات أخرى ترى أن اليهود بدورهم دخلاء وأنهم باتوا يتحكمون في رأس المال الأمريكي، وقد حان الوقت للخلاص منهم، وعودة أمريكا إلى حالة النقاء الأنحلو ساكسوني التاريخية؟ مهدد آخر يجعل الولايات المتحدة الأمريكية رعبًا لاسرائيل وليهود العالم يتصل بتيار اليمين الأصولي المسيحي، ومعروف أنه من أكثر التيارات في الداخل الأمريكي التي تساند اسرائيل ظالمة دوماً غير مظلومة أبداً. الشهر الماضى أيضاً تفاجأ الأمريكيون بالأرقام الصادرة عن “شركة الأبحاث الأمريكية” “لايف واى ريسيرش” والتي تشير إلى أن كبار السن من الإنجيليين الأمريكيين هم الذين يحبون إسرائيل، أما الشباب من الإنجيليين الأمريكيين فلا يهتمون للأمر… هل من عواقب سياسية بعينها لمثل تلك النتيجة؟ القضية غاية في الأهمية والخطورة معًا، وتحتاج إلى تفصيل ولو سريع بغير خلل، وذلك أن دعم تلك الجماعات المسيحية اليمينية الأمريكية لدولة إسرائيل لا يسعى في الأصل لتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين، وإنما يعتبر هذا الوجود المناخ الذي يساعد في تحقيق التنبؤات التاريخية (والخاطئة في تقرير علماء اللاهوت المسيحي في الكنائس الآبائية الكبري لاسيما الكنيسة الكاثوليكية) وفي المقدمة منها عودة المسيح إلى الأرض من جديد، وقيامه بحكم العالم لمدة ألف سنة، تكون فيها أورشليم القدس هي عاصمة الأمبراطورية المسيحية التي ستحكم العالم. هنا يدرك اليهود هذا الأمر جيداً، ولهذا دائمًا لديهم شكوك بالغة في دعم اليمين الأنجيلي لهم، ومع ذلك يسايرونهم ويجارونهم لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة، خلال أطول فترة زمنية ممكنة . ولعل في مقدمة الأسباب التي تؤدى إلى تغير رؤية شباب أمريكا من المسيحيين الإنجيليين لإسرائيل، هو إدراكهم لعدالة القضية الفلسطينية، والنظر إلى فلسطين بوصفها حاضنة إلايمان المسيحي الأول حول العالم، وعلى ذلك فإنه لا يصح لأحد أن يزايد على الإيمان المسيحي للمسيحيين الفلسطينيين من بيت لحم إلى بيت المقدس أمس واليوم وإلى الأبد. هل لهذه الأسباب حذر “مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي” منذ عدة أسابيع من توجهات الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية وكيف يمكن أن تتعدل وتتبدل دفة الدعم لإسرائيل في المستقبل؟ الدراسة وبحسب نص ما نشر تقول: “هناك مخاوف من إنتخاب رؤساء أقل التزامًا بمصالح إسرائيل في المستقبل تفرض على الحكومة الإسرائيلية بذل كل الجهود التي تضمن إستغلال وجود الرئيس الحالى دونالد ترامب في الحكم، لتحقيق مصالح إسرائيل الحيوية”. الدراسه التي أعدها الباحث في المركز “أفنير جولوف” تشير إلى أن هناك ما يبعث على القلق من أن توجهات الرأي العام الأمريكي قد تفضي إلى انتخاب رئيس أو رئيسة لا يشاطران ترامب التزامه ازاء مصالح إسرائيل. مؤخرًا تواجه إسرائيل خيارات صعبة وعليها أن تختار قبل أن تتعدل وتبتدل التوجهات الأمريكية، فهي إما أن تمنح الفلسطينيين دولتهم المستقلة ولهذا عليها أن تتوقف عن التشدق بكونها دولة يهودية عرقية، أو المماطلة وتسويف الوقت والامتناع عن منحهم حقوقهم ودولتهم، وبهذا تضحي دولة لا علاقة لها بالديمقراطية التي تصدع العالم بها صباح مساء كل يوم. بعد سبعين عامًا من قيام دولة إسرائيل لا يفيدها البقاء إلى الأبد على حد السيف ولا الإرتكان لدعم الإمريكيين، إنه عالم متغير والمهددات بالنسبة لإسرائيل فيه متزايدة، وبر السلام والأمان أمام أعينها لكنها دولة غير مجبولة على السلام ولا دالة لها إلا على الحروب، ناسية أو متناسية أن من أخذ بالسيف فبالسف يؤخذ.
مشاركة :