لمن لا يعرف نظرية هرم ماسلو، فإنه يمكن تعريفها أنها من النظريات المهمة التي حققت الكثير من النجاحات في علم النفس، ودراسة الاحتياجات البشرية، إذ قدم العالم إبراهام ماسلو ورقة بحثيّة بعنوان (نظريّة الدافع البشري) عام 1943 فيدورية (المراجعة النفسية) العلمية، وبعد ذلك بفترة زمنية وسّع ماسلو فِكرَته لتشمل مُلاحظاته حول الفضول البشري الفطري. ولقد وجد العلماء أن نظريَته تتبع فرعَعلم النفس التنمويالذي يدرس تطوّر ونمو الإنسان خلال المراحل المختلفة من حياتِه، وتناقش هذه النظرية ترتيب حاجات الإنسان ووصف الدوافع التي تُحرّكه؛ وتتلخص هذه الاحتياجات – حسب النظرية– في خمس مستويات وهي: الاحتياجات الفسيولوجية،وحاجات الأمان،والاحتياجات الاجتماعية،والحاجة إلى التقدير،والحاجة إلى تحقيق الذات. ورُسمت هذه الحاجات وتلك النظرية بصورة هرم، إذ أتت الاحتياجات الفطرية في قاع الهرم، وتتبعها في المستوى الثاني حاجات الأمان، ومن ثم الاحتياجات الاجتماعية وهكذا حتى يصل إلى قمة الهرم التي تتمثل في الحاجة إلى تحقيق الذات، ولقد تحدثنا سابقًا عن هذه النظرية عدة مرات ولا نريد الخوض فيها وشرحها وتفنيدها، ولقد كانت لنا وجهات نظر فيها، ويمكن الرجوع إلى مقالاتنا السابقة لنتعرف على كل ما كتبناه حول هذه النظرية. ولكن اليوم نريد أن نحيد عن كل ذلك، وأن نُسقط هذه النظرية على العمل المؤسسي والأداء الوظيفي، فهل يمكننا التوافق على ذلك؟ لنحاول. المستوى الأول: توفير الاحتياجات الفسيولوجية؛ وهذا يعني في النظرية الأصلية أنه يجب أن تتوفر للإنسان كل المستلزمات التي تساعده على الحياة، كالغذاء والماء والنوم وما إلى ذلك، ونحن نعلم أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من غير توفير كل هذه المستلزمات، وهنا تتشارك الحيوانات وبقية الكائنات الحية مع الإنسان في هذه الاحتياجات، فالنباتات – مثلاً – لابد لها من غذاء وضوء الشمس وماء لتعيش. وهذا في أصل النظرية، أما في حالة العمل المؤسسي فإنه ينبغي على المؤسسة أن توفر للموظفين والعاملين فيها كل الاحتياجات والمتطلبات الأساسية للحياة، مثل الدخل أو الراتب الثابت المريح والذي يتزايد بوتيرة مستدامة دوريًّا أو سنويًّا، فالإنسان لا يمكنه أن يعيش من غير راتب ودخل ثابت، بالإضافة إلى توفير جميع المرافق والاحتياجات الطبيعية في بيئة العمل، فلا يمكن مثلاً: أن نعيش في بيئة عمل مؤسسي من غير مراحيض أو مطبخ، أو من غير ماء للشرب، أو حتى الشاي والقهوة وما إلى ذلك فهذه المرافق وتلك المستلزمات توفر للموظف الاحتياجات الأساسية لبيئة مريحة للبقاء في الوظيفة بصورة مستدامة. المستوى الثاني: توفير احتياجات الأمان؛ عندما نتحدث عن الأمان فإننا نتحدث عن الشعور بالأمان الجسدي والفكري والعقائدي والنفسي والأسري وحتى المعاشي والمعيشي، فلا يمكن تحقيق هذا المستوى من الأمان في حياة الإنسان العملية إلا بالإحساس بالأمن الوظيفي وضمان مستقبل الأبناء وما إلى ذلك، فعدم تحقيق تلك الحاجات سيؤدي بالفرد إلى انشغاله فكريًا ونفسيًا في نفسه وأولاده وأسرته ومن يحيط به، ما يؤثر في أدائه في العمل وحياته الشخصية والاجتماعية. وربما يتبع ذلك توظيف الباحثين عن العمل وإدراجهم في أعمال مستدامة، وهذا يعني ببساطة أنه لا ينبغي إدراجهم في الأعمال عبر عقود العمل المؤقتة وذلك بسبب احتياجاتهم للعمل، وكما يجب منحهم الشعور أنهم من الأهمية بمكان في هذا البلد وهذه المؤسسة التي تحتاج إلى وجودهم وبقائهم، وهذا يوفر لهم الأمان المستدام. المستوى الثالث: تحقيق الحاجات الاجتماعية؛ في النظرية الأصلية تأتي الحاجات والانتماءات الاجتماعية كمرحلة ثالثة من الاحتياجات التي حددها ماسلو في نظريته، فالإنسان يجب أن يشعر أنه منتم إلى جماعة ولديه عدد من الصداقات ولديه أسرة، وبينه وبين جماعته وأصدقائه وأسرته علاقة حب وولاء، لذلك عادة ما تكون لديه الرغبة في مساعدة الآخرين والرغبة في مساعدة الناس لشخصه. ولقد أوضحت الدراسات أن البيئة المؤسسية أو أي بيئة يعيشها الإنسان إن لم تستطع إشباع هذه الحاجات حتمًا سيؤدي ذلك إلى اختلال التوازن النفسي لدى الإنسان، وهذا ربما يؤدي إلى الانطوائية والاكتئاب والقلق، وربما سيؤثر في أداء هذا الإنسان الوظيفي وكذلك الحياتي. لذلك فإن المؤسسات المهنية –أيًا كانت– لا بد وأن تقيم أنشطة اجتماعية، وعلاقات بشرية، فلا يمكن أن يتسلط المسؤول على الموظفين أو أن يتخذ بعض الموظفين عبيدا لأداء مهماته الشخصية، وأما الموظف الذي يرفض أن يكون عبدًا للمسؤول فإنه يحرم من الترقيات، بل وربما يركن ويهمش، فقد وجدنا أن بعض خلافات في وجهات النظر في العمل بين مسؤول وموظف يمكن أن يؤدي إلى تهميش الموظف سنوات، وهذا يعني أن يأتي للدوام لمجرد أنه يأتي لشرب الشاي والتوقيع فقط، من غير أن يقوم بأي عمل يذكر، وذلك بسبب أنه قال رأيه في موضوع معين في العمل وفكر. إن توفير الحاجات الاجتماعية في العمل من الأمور التي ينبغي أن يعاد النظر فيها في كثير من المؤسسات حتى تتحقق بقية المستويات من هرم ماسلو. المستوى الرابع: الحاجة إلى التقدير؛ كل البشر وكل إنسان أيًا كان موقعه يحتاج في المستوى الرابع من هرم ماسلو إلى كسب احترام الناس والتقدير والرغبة في الظهور والتميز سواء في العمل أو في الحياة. ففي هذه المرحلة فإن الإنسان يركز على مكانته الاجتماعية وعلى تقدير واحترام الآخرين له، وهذا ما يشعره بالثقة والقوة، وبالتالي سيقوم بتطوير نفسه وتحسين وضعه في الحياة وكذلك في الوظيفة بشرط أن يشعر أنه مُقدر وأن الدولة والمؤسسة التي ينتمي لها تقدره. وربما هنا يأتي موضوع التحفيز، سواء بشهادة شكر أو مكافأة مالية أو حتى بكلمة طيبة، فإن شعر الموظف بالتقدير والثناء فإنه تزداد الثقة بنفسه، لذلك فإن موضوع موظف الشهر أو ما شابه ذلك من إجراءات كلها إجراءات تحفيزية ينتظرها الموظف من المسؤول، فيمكن مثلاً أن تقوم إدارة العلاقات العامة في المؤسسة وفي نهاية كل سنة بإقامة حفلة عامة يتم فيها توزيع شهادات شكر على بعض العاملين والموظفين المجدين، على أن يقام هذا الحفل برعاية وبحضور أكبر مسؤول في المؤسسة، ويقوم هو بمنح تلك الشهادات، فإن هذا سيؤثر حتمًا في الأداء الوظيفي للشخص، وخاصة إن رافق ذلك هدية بسيطة أو درع. المستوى الخامس: الحاجة إلى تحقيق الذات؛ بعد أن تتحقق الاحتياجات الأساسية للإنسان فإنه يصل إلى المرحلة النهائية ليحقق آخر احتياجاته، وهو تحقيق ذاته، والصورة التي يتخيلها لنفسه. ففي هذه المرحلة يتمكن الإنسان من مواجهة التحديات من دون خوف من الفشل في سبيل تحقيق النجاح، فهو يحاول بكل جهد أن يطور نفسه ومواهبه وقدراته حتى يحقق ذاته وأكبر ما يمكنه من إنجازات، عندئذ يشعر بذاته وكينونته ووجوده في المجتمع أو البيئة المؤسسية التي يعمل بها. لقد وجدنا أن هناك الكثير من الموظفين والعاملين الذين يرغبون في تحقيق ذواتهم من خلال الارتقاء في المناصب، وآخرين يرغبون في نيل الشهادات الدراسية سواء الماجستير أو الدكتوراه، بالإضافة إلى تطوير الذات من خلال الدورات التدريبية والمهنية، فكم من موظف تحقق له ذلك من خلال الوظيفة؟ ويجب أن نعلم أنه كلما حقق الموظف ذاته فإن أداءه وإمكانياته ستتعاظم وفكره سيتوسع، ويصبح ميالا في الشعور أنه يجب أن يبذل قصارى جهده لتحقيق حاجات الأفراد الآخرين لأنه هو قد قام بتحقيق ذاته، بالإضافة إلى ذلك فإنه حتمًا سيحقق الكثير من الإنجازات والإبداعات والابتكارات التي لا بد وأن تنعكس على العمل والأداء الوظيفي. ما كتبناه هنا اليوم مجرد بعض التصورات البسيطة حول تحويل هرم ماسلو للاحتياجات البشرية إلى فكرة تنعكس على العمل والأداء الوظيفي في المؤسسات سواء العامة أو الخاصة، فلو استطاعت كل مؤسسة خاصة أو عامة أن تعيد التفكير في تحقيق وتوفير الاحتياجات الإنسانية لموظفيها فإن الكثير من المشاكل في العمل ستتلاشى، ولكن للأسف فقد وجدنا أن الكثير من المؤسسات لا تعني بالموظف ولا تريد أن تراه إلا من خلال ما يقدمه سواء كان في حالة من الرضا أو لا. والغريب في الموضوع أن الكثير من الدراسات بدأت تحيد عن مصطلح وفكرة الرضا الوظيفي والاندماج الوظيفي إلى مصطلح جديد وهو (السعادة الوظيفية)، وهذا الموضوع سنتحدث فيه لاحقًا، إلا أن موضوع (السعادة الوظيفية) يجب التفكير فيه بصورة إيجابية، لأننا وجدنا أنه ذو تأثير فعال ومهم على الموظف، وخاصة عندما يأتي للعمل وهو في أشد حالات الرغبة والرضا، فلا يأتي للعمل وهو ينتظر الإجازة الأسبوعية، وإنما بكل بساطة يأتي للعمل العام أو الخاص وكأنه عمله هو شخصيًا، أي أنه رب العمل. وعندما يصل الإنسان إلى هذا المستوى فإنه حتمًا سيشعر بالسعادة الوظيفية لأن هذه الوظيفة تحقق له كل احتياجاته. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :