دبي تروي قصص ماضيها العتيق

  • 1/23/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

رحلة لا أملك أمامها سوى الصمت والتأمل لزمن قديم لا يزال يحتفظ بأصالته، أشرد بذهني بعيداً فأتذكر على الفور عبارة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، التي يقول فيها: الجيل الجديد يجب أن يعرف كم قاسى الجيل الذي سبقه، فذلك يزيده صلابة وصبراً وجهاداً لمواصلة المسيرة التي بدأها الآباء والأجداد، وهي المسيرة التي جسدت في النهاية الأماني القومية بعد فترة طويلة من المعاناة ضد التجزئة والتخلف والحرمان. تلك الكلمات التي تخفي وراءها فلسفة وحكمة عميقة، من يتأملها لا يمكن أن تمر عليه مرور الكرام، فهي تجسد أمامك صورة الماضي البعيد بكل ما حمله من عناء، ومعاناة، وقسوة وكفاح، وإصرار وتحدٍ لكل ما هو مستحيل، وحاضر ينطبق عليه المثل الشهير القائل: ما زرعه الآباء يجنيه ويقطف ثماره الأبناء، بل وترسم أيضاً مستقبلاً بدت ملامحه واضحة وضوح الشمس، لامعة لمعان النجوم، في ليلة ظلام دامسة. وحدها كانت كلمات المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، التي حفرت الصخر، وتحدت الصعاب، وحدها حاصرتني طوال رحلتي عبر تاريخ وتراث وأصالة مدينة الأحلام دبي. قصص من الماضي هو العنوان الذي اختارته تلك الجولة لقباً لها، وهي التي انطلقت بتوجيهات من صاحب السمو الشّيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، بالتعاون مع هيئة الثقافة والفنون في دبي هيئة الثقافة، ودائرة السياحة والتسويق التجاري في دبي، وشركة بوابة الصحراء، التي هدفت إلى زيارة منطقة خور دبي التاريخية بقيادة مرشدين سياحيين إماراتيين. من هنا، أبدأ نقطة انطلاقي لأهرول لتلك الرحلة التي أعود من خلالها أزماناً إلى الوراء، لأعيش مع الأجداد كل تفاصيل ومحطات حياتهم، وأقف طويلاً أمام اعتزاز هذا الشعب بتاريخه وتراثه، على الرغم من أن الإمارات بشكل عام ومدينة دبي خصوصاً وصلت إلى مستوى مذهل وعالٍ من الحداثة والتقدم في عالم التكنولوجيا. حافلة سياحية، امتلأت عن آخرها بالسائحين الأجانب، ونجحت أن أحجز لنفسي وزميلي المصور مكاناً بينهم. تنطلق الحافلة لتشق طريقها وسط مدينة الأرقام القياسية بناطحاتها ورونقها الذي يشد حواسك جميعها، وها هي الحافلة، تصل إلى أول وأهم محطة في جولتنا التراثية، وكيف لا تكون الأهم وهي اللؤلؤة اللامعة والجوهرة التي تصون تراث وتاريخ المدينة، إنها منطقة الشندغة التاريخية. ها نحن نقف وجهاً لوجه أمام المنطقة ذات الإطلالة الهادئة على قنطرة التواصل بين ثقافات البلدان، لتعبر -بخفة- جسر الامتداد بين القديم والجديد. تقف بجسارة وسط مدينة دبي لتستحق أن تكون شاهد عيان على أسطورة عمرها أكثر من 1000 عام. لا تملك وأنت تقف على ضفاف الخور، إلا أن تجد نفسك مُسيراً لا مخيراً، مستسلماً لجمال وهدوء وأسطورية المكان، لا أستطيع سوى أن أرى تاريخاً حفرته إرادة وسواعد هذا الشعب. صوت المرشد الإماراتي ينطلق بفخر وعزة وحكمة وهدوء، ليصول ويجول بيننا، شارحاً ومفسراً، راصداً وناقلاً لتاريخ ذلك الصرح التاريخي الذي لا يوصف. نهِمّ بدخول بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، الذي يُعد من أهم معالم العمارة التراثية التقليدية في الإمارة، نظراً لقيمته التاريخية باعتباره مقراً لسكن الحاكم الشيخ سعيد آل مكتوم حتى وفاته في عام 1958 ، وها هي أبراجه الهوائية الشاهقة وزخارفه الجمالية تؤكد معنى الأصالة التراثية والتاريخية لهذا المبنى الذي تتفاوت ارتفاعاته بين طابق وطابقين. شون يانج، ياباني الجنسية، راح يلتقط كادراته لكل صغيرة وكبيرة في المنزل القديم، ويقف فترات طويلة أمام كل الصور التي زينت الجدران وحملت معها ذكريات زمن قديم. يحدثني يانج، عن انطباعاته عن تلك الجولة، ويقول: تاريخ جدير بالتأمل، ومنطقة تنطق جدرانها بكل ما هو تراثي، لتحكي حكاية هذا البلد. يستوقفني سؤال مهم، في تلك الرحلة: كيف لهذا البلد أن يحقق الأرقام القياسية في كل شيء؟ وكيف يحصل ناسه على لقب أسعد الشعوب في العالم في هذا الزمن الوجيز؟ وكلما نظرت لتلك الصور المعلقة على جدران المنزل أشعر بأن القدماء في هذا البلد عانوا معاناة شديدة، لكنهم استطاعوا بجدارة أن يضعوا الخطط التي سار عليها أبناؤهم لتحقيق هذا النجاح الباهر. كل ما أستطيع قوله إن تلك الجولة ساهمت كثيراً في أن تجعلني أقدّر أهمية مدينة مثل دبي، بل وأنحني تقديراً لشعب الإمارات. قاطعنا حديث المرشد الإماراتي حين بدأ في شرح تفاصيل مبنى الشيخ عبيد بن ثاني، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1916 ، ذاك الذي يكتسب أهميته من خلال موقعه المتميز في وسط المنطقة، ويضم كثيراً من عناصرها المعمارية التي تظهر القيم الجمالية في واجهات البناء، في ذلك الزمن، فضلاً عن مبنى الشيخ جمعة آل مكتوم، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1928، الذي يشكل استمراراً للصورة البصرية الجمالية للعمران التقليدي، وبعداً حضارياً وتاريخياً لهذه المنطقة. من البيوت العتيقة إلى المساجد، لم ينسَ مرشدنا أن يتوقف طويلاً أمام تلك التحف المعمارية الفنية التي يعود تاريخ إنشائها إلى بداية القرن الماضي، وهي عبارة عن 6 مساجد تاريخية موزعة في جميع أنحاء المنطقة. ويشرح المرشد الدور المهم الذي لعبته تلك المساجد التاريخية من أجل تطوير ونشر الوعي في الحياة الدينية والاجتماعية للسكان، ما أضفى على المنطقة نوعاً من التوازن العمراني والثقافي. لم أشعر بنفسي إلا وأنا أنسحب قليلاً من حديث المرافق، لأجدني أقف أمام ما يحمل بين راحتيه رائحة تاريخ الأجداد، ما كان يعد في تلك الحقبة القديمة من أكبر المراكز التجارية النشيطة والمتطورة في المنطقة نظراً إلى موقع المدينة الحيوي، حيث تقع دبي على شاطئ ميناء طبيعي، إنه خور دبي الذي يمتد 10 أميال ويعد من أفضل الموانئ الطبيعية في جنوب الخليج. أقف أمامه، فأسترجع أهميته التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لسكان دبي القديمة في هذا الوقت، خصوصاً لغواصي اللؤلؤ والتجار وصيادي السمك والبدو، الذين كانوا يفدون إلى قرى الساحل موسمياً لمزاولة الغوص والصيد، ومع مرور الزمن انقسمت دبي إلى 3 مناطق رئيسية: ديرة على الضفة الشرقية للخور، وهي المنطقة الأكبر والمركز التجاري الرئيسي، وبر دبي، والشندغة على الضفة الغربية للخور، التي كان يفصل بينها وبين بر دبي حاجزاً رملياً يدعى الغبيبة. وعادة ما كان الخور يغمر هذا الحاجز بمياهه عندما يحدث المد. أسير إلى جانب ضفتي مياه الخور لأصل إلى العبرة، وهي قارب صغير يسير بالتجديف ينقل الناس من ضفة إلى أخرى، تلك كانت المراكب القديمة التي كان يمتطيها القدماء، خصوصاً أن دبي لم يكن فيها شبكة طرق رسمية حتى منتصف القرن الماضي، وكانت طرقها عبارة عن ممرات ترابية ضيقة لا تسمح بمرور السيارات، لذلك كانوا يستخدمون الحمير أو الجمال للتنقل، ولأنه لم تكن لديهم جسور على الخور لتصل بين شطري دبي، فكان على البشر أن يتحملوا رحلة مضنية للانتقال من ضفة إلى أخرى، بالدوران حول نهاية الخور، وكانت العبرة هي الوسيلة الأفضل لهم. الجميل والعبقري أن الجولة السياحية لم تنس أبداً أن يكون من ضمن برنامجها ركوب السائحين للعبرة، و يا لها من تجربة فريدة من نوعها أذهلت الزائرين، بحسب ما يقول فيرناندو بروينو الإسباني الجنسية. يضيف: رحلة بحرية لا يمكن أن أنساها، والجميل أن هذه النزهة تبلغ تكلفتها درهماً واحداً للشخص، حقيقة لا أصدق في أي عالم أنا. وسط كل هذا الجمال والحداثة والتقدم والتكنولوجيا، أجد وسيلة للتنقل عبر مياه البحر بدرهم واحد، إنه جنون، ولكنه في منتهى الحكمة والذكاء، بل والعقل أيضاً. أعترف بأنني منبهر بتلك الجولة. تبدي ناتاشا أوريليف، الروسية، انبهارها بتلك الجولة، خصوصاً عند زيارة قرية التراث ورؤية حياة الأجداد. تقول: اللقيمات أكثر ما أعجبني، تذوقتها هي وبعض الفطائر التراثية، في ذلك المكان الذي جعلني أتعرف إلى تاريخ بلد أزوره لأول مرة، وأعتقد أن زيارتي ستتكرر دوماً. كادت الجولة أن تنتهي بزيارتنا لقرية التراث التي عدنا إليها بعد انتهاء رحلتنا البحرية عبر العبرة التراثية، لولا تلك المُدرسة الهندية التي وقفت وسط تلاميذ المدرسة تشرح لهم تاريخ المنطقة، وعند اقترابي منها سمعتها تقول: ليت بلادنا تهتم بقيمة التراث والتاريخ، هذا المكان بالفعل صالح لأن يكون رحلة ترفيهية تعليمية للأطفال في المدارس. يوسف لوتاه: التقاليد والتراث والتجارة أهم ركائزالتطوير يوسف لوتاه، المدير التنفيذي لإدارة التطوير السياحي والاستثمار بدائرة السياحة والتسويق التجاري، وعضو اللجنة العليا لمتابعة مشروع تطوير المنطقة التاريخية في دبي يتحدث عن ملامح مشروع إحياء المنطقة التاريخية قائلاً: يأتي هذا المشروع وفق خطة اعتمدها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي مطلع عام 2015، من خلال تحويل المنطقة الواقعة ضمن المشروع إلى أكبر متحف مفتوح من خلال الخور والأحياء التاريخية المجاورة وهي حي الشندغة، بردبي، حي الفهيدي، ومنطقة ديرة، وذلك لإحياء التراث العريق للإمارة لاسيما في مجالات التجارة والصناعات اليدوية والغوص لاستخراج اللؤلؤ، وغيرها. ووفق لوتاه، يغطي المشروع مساحة 1.5 كلم، ويأتي تأسيسه على خمس ركائز أساسية هي التقاليد، والتراث، والتجارة، والمجتمع والتطوير المكاني، وذلك لضمان الحفاظ على العبق التاريخي الأصيل للمنطقة وتسهيل الزيارات السياحية. وستضم منطقة خور دبي مساحات مخصصة للمشاة تحفل بالعديد من القصص التاريخية التي يتعرّف اليها المارّة من خلال تطبيقات ذكية، ونُصب تذكارية تحاكي الماضي، ويدعم هذه الرسالة فريق من المرشدين السياحيين المتمرسين. وتأتي هذه الجولة ضمن هذا المشروع، وتتكلف 350 درهماً للشخص، ويمكن حجزها عبر موقع شركة بوابة الصحراء. وعن قيام مرشدين إماراتيين بالشرح للسائحين، يقول لوتاه: اختيارهم يكون وفقاً لمجموعة من المعايير من بينها الخبرة في هذا المجال، وتعمل الدائرة بالتّعاون مع هيئة الثقافة وبلدية دبي على رفد مشروع إعادة تطوير منطقة دبي التاريخية بدعم المرشدين السياحيين الإماراتيين الأكفاء الذين ستعمل على تدريبهم على أعلى مستوى، وتأهيلهم ضمن برنامج الإرشاد السياحي، وتغذيتهم بالمعلومات التراثية والتاريخية ليكونوا قادرين على تحمل مسؤولية تقديمها إلى الزوار. وعن الدور الذي تلعبه هيئة الثقافة والفنون، يري لوتاه أنها أحد الأعضاء الأساسيين في اللجنة العليا لمتابعة مشروع تطوير المنطقة التاريخية، وتعمل على تكثيف الجهود مع الهيئات والمؤسسات المعنية بتعزيز صناعة السياحة الثقافية في الإمارة، انسجاماً مع توجهات حكومة دبي الرامية إلى جعل الإمارة الوجهة الأولى في اختيارات السائح والزائر للمنطقة.

مشاركة :