النهضة الأدبية والنهضة الفكرية

  • 1/6/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

التنوير لم يقتصر على أوروبا حينها بل انتقل إلى بقاع الوطن العربي أيضا بفضل ذلك التلامس الحر بين جموع هذه الثقافات وتلك، سواء كان ذلك بالبعثات أو الترجمة أو الدراسات، وكان كل ذلك بحرية وبدافع الاعتزاز بالهوية العربية ومساواتها بكل ماهو جديد ومفيد. كل ذلك كان بفعل حر أبي يخشى على تألق بلادهم بين تلك البلدان ولم يكن بدافع التبعية والاستنساخ. إن الوطن العربي من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، مكدس بالمفكرين وعلماء الإنتليجنسيا (intelligentsia) ليس في وقتنا الحاضر فحسب، وإنما يمتد وجودهم لعصور عميقة، ويشهد بذلك تاريخنا الثقافي الممتد جذوره بعمق الثقافة الإنسانية. ولكنه سبق أن طافت على هذا الوطن العربي كله بشتى صنوفه الفكرية أفكار وآراء مصنَّعة ومصطنعة، في نبرة جعلته يستبدل العقل بالنقل، والحرية بالجبر، والحوار بالإملاء، والانفتاح بالعزلة، والأنا مكان الآخر؛ في إزاحة مقيتة، هذه الإزاحة هي التي رسخت للأنوية والعنصرية والعصبية والشوفونية وقل ما تشاء! كل ذلك تحت ستار نزعات تبحث عن سلطة ما، لا يعلمها سواهم أنفسهم وأغلب الظن أنه البحث الدائم والمحموم بالمركزية واعتلاء صهوتها. ومن هنا تراجع ركب التنوير بعد أن سطعت شمسه في سماء العروبة وظهرت لنا عباقرتها وكتابها ومنظريها وفنانوها فكان نجم الكلمة والفن والإبداع لامعا في ظلمات كانت أو تكاد. وفي يومنا هذا ومع ظهور النهضة الفكرية العربية من جديد والتطلع إلى إبداع ينافس ما انطمر في هوة التراجع والتنمر والعقاب والإقصاء، وكلنا أعناق مشرئبة إلى ما هو جديد، لكن هناك أرضية ملساء باردة شديدة الصقيع نتاج ما يربو على الثلاثين عاما من التلقين والحفظ والإملاء والتعليم الموجه والوجدان المصنّع والمؤدلج والمصبغ بصبغة مرسومة لا تتعدى إطارها الخارجي، لأنها جبلت على إطار صلب يحكم حركتها الذهنية المكبلة بأغلال كل ما ذكرناه. إن بلادنا في هذه الآونة بفضل الله وبفضل حكامنا الطامحين للنهضة العربية والمرور من أنفاق مظلمة إلى سطوع نور قادم (التنوير) أشبه بعصر التنوير في أوروبا إبان القرن السادس عشر والذي أخرجها من ظلمات العصور الوسطى والتي سبق أن خسرت أوروبا حينها كل شيء بسبب ذلك الانغلاق الفكري الذي عم البلاد والعباد في ذلك الوقت وهذا ليس بخاف على أحد، فبذلك التنوير ظهرت لنا المخترعات والفنون والفكر الذي جعلها الآن تتبوأ هذه المكانة. ومما لا شك فيه أن ذلك التنوير لم يقتصر على أوروبا حينها بل انتقل إلى بقاع الوطن العربي أيضا بفضل ذلك التلامس الحر بين جموع هذه الثقافات وتلك، سواء كان ذلك بالبعثات أو الترجمة أو الدراسات، وكان كل ذلك بحرية وبدافع الاعتزاز بالهوية العربية ومساواتها بكل ماهو جديد ومفيد. كل ذلك كان بفعل حر أبي يخشى على تألق بلادهم بين تلك البلدان ولم يكن بدافع التبعية والاستنساخ. فعندما صدرت 1904 ترجمة سليمان البستاني (1856-1925) لإلياذة هوميروس عن اليونانية – وكلنا نعلم أن ملحمة الإلياذة والأوديسة هي ما تقتات عليه الفنون العالمية والعربية حتى يومنا هذا- وعليها فهارس وشروحات بقلم البستاني نفسه كانت حدثا كبيرا في الحياة الثقافية حينها فيقول الدكتور جابر عصفور: "لا يكتفي بالترجمة المنظومة، وما صاحبها من جهد مضنِ في تطويع اللغة العربية لتأدية المعاني الأسطورية والمجازات اليونانية، بل يقدم مقارنة بين آداب العرب واليونان.. ليتحرك - كونه وسيطا- ليصل قراءه العرب بالثقافة الإنسانية التي ينتمون إليها". وفي الوقت نفسه يحتفي رموز الثقافة من جميع أرجاء الوطن العربي بهذا العمل "فتنظم إليهم لجنة إحياء اللغة العربية والتي كان يرأسها في ذلك الحين الإمام محمد عبده ويقام احتفال مهيب عام 1904 في فندق شبرد بالقاهرة يضم كل من سعد زغلول من محكمة الاستئناف الأهلية، وعبدالخالق بك ثروت في لجنة المراقبة القضائية وأحد أعضاء لجنة إحياء اللغة العربية وسكرتيرها، وسعادة محمد بك فريد المحامي من أعضاء لجنة إحياء اللغة العربية، وسعادة عمر لطفي بك المحامي وكيل مدرسة الحقوق وحضرة الفاضل الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء وحضرة الأستاذ إبراهيم رمزي صاحب جريدة التمدن، والعلامة الشيخ إبراهيم اليازجي وحضرات الكتباء الأماجد: محمد أفندي مسعود وحافظ أفندي وعوض أفندي واصف وعشرات غيرهم". فكما توحدت أوروبا فكريا وإنسانيا في ذلك الوقت، فإن هذا الجمع -ومن بينهم معممون ومطربشون وعلماء- له دلالته أيضا حيث إنه جمع بين الشامي والمصري والعراقي وغيرهم في الاحتفاء بمترجم سوري. هكذا كانت النهضة الفكرية العربية موازية للأوروبية، إلا أن ما اعترض قضبان القاطرة لدينا هي تلك الأكسدة المقيتة التي أنكرت علينا كل التطلعات فكانت ثلاثون عاما من الكمون، ولم تعد المعضلة في ذلك الكمون بل تعدت حدودها إلى صناعة جيل مؤطر بذهنية تعليمية لا تنبت زرعا ولا تسقي ضرعا، وهو ما نواجهه الآن من فراغ بين النهضة الأدبية والنهضة الفكرية إذ أنها لا تتم إحداهما دون الأخرى! ولذلك فإن ما نشهده من نهضة فكرية في المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عده الأمين -حفظهما الله- ما هو إلا عصر الإحياء والتنوير والنهضة الفكرية المتمثلة في وزارة الثقافة وإنشاء إحدى عشر هيئة فكرية، هيئات (فنون الطهي، العمارة والتصميم، المكتبات، الموسيقى، المسرح والفنون الأدائية، المتاحف، الفنون البصرية، الأفلام، الأزياء، الأدب والنشر والترجمة، التراث) كل هيئة لها هيكلها ومنسوبوها من أجل هذا التنوير القادم بإذن الله.

مشاركة :