هل يبدو توازن القوى خياراً ناجعاً لبناء الاستقرار في منطقة الخليج؟ أم أن هذا الخيار سبب في غياب الأمن واندلاع الحروب؟ في تجربته التاريخية، كان النظام الإقليمي الخليجي قد شهد ما يُمكن تعريفه بحذر بأنه شكل من أشكال توازن القوى المحلي، وذلك خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، وخاصة اعتباراً من العام 1975. هذه التجربة، شابتها ثغرات عديدة، أسفرت في مجملها عن إخفاق توازن القوى في إدامة الاستقرار الهش، وانتهت المنطقة مع هذا الترتيب إلى حربين كبيرتين، في غضون عقد من الزمن: هما الحرب العراقية الإيرانية، بين عامي 1980 – 1988، وحرب الخليج الثانية عامي 1990 – 1991. خيار توازن القوى لا يبدو خياراً راجحاً في معادلة النظام الإقليمي الخليجي، ولا يبدو جديراً بدول المنطقة اعتماده كأساس لأمنها، أو كدليل لعلاقاتها البينية. بيد أن هذا القول لا يعني، بحال من الأحوال، عدم حاجة دول المنطقة للتسلّح وبناء القدرات الدفاعية في سياق مواز، طرحت بعض القوى الخليجية، خلال العقد السابع من القرن العشرين، عدداً من المشاريع التي اقترحت ترتيبات أمنية مشتركة للنظام الإقليمي الخليجي، فقد رفع العراق الشعار القومي العروبي، في مواجهة الشعار الإقليمي الخليجي الذي نادت به طهران. وفي حين رأت طهران أنّ أمن الخليج يجب أن يستند إلى مقاربة إقليمية خالصة، أصرت بغداد على أنّ هذا الأمن يجب أن يعالج باعتباره جزءاً من الأمن القومي العربي. وكان طرح طهران، إبان عهد الشاه، يستند إلى غطاء دولي تمثله الولايات المتحدة، بيد أنه بدا مفتقراً لشروط القيادة الإقليمية، فإيران الشاهنشاهية لم تستطع أن تخلق لنفسها دوراً قيادياً، بل جسدت نزوعاً متزايداً نحو الهيمنة، الأمر الذي عزز من هواجس الآخرين تجاهها. وهنا، بدت أولى الأسباب التي قادت إلى فشل مشروع الأمن الإقليمي الذي رفعت رايته. أما العراق فقد تمثلت مشكلة أطروحته في فقدانها لأي غطاء دولي، كما أنّ معارضته لمشاريع طهران الأمنية في المنطقة تزامنت مع توترات واضحة في علاقاته مع بقية الدول العربية في الخليج، التي أبدت ريبةً من جموحه الأيديولوجي، ولجوئه للتعبئة والعمل التحتي في ساحاتها المحلية. كذلك، فقد كانت علاقات العراق متوترةً مع معظم القوى الفاعلة في النظام الإقليمي العربي، بل إنّ خصوماته طالت معظم العواصم العربية، الأمر الذي أفقده الدعم الرسمي العربي في معركته مع شاه إيران. وكانت هذه إحدى أبرز تجليات وهن النظام العراقي، الذي فشل في الفصل بين خيارات الحزب ودور الدولة. ولكن ماذا عن دول الداخل الخليجي الست ذاتها؟ لقد طرحت هذه الدول خيار التعويم الديني الإسلامي في مواجهة كل من التمركز الإقليمي الذي نادت به طهران، والتعويم القومي الذي دعت إليه بغداد، بيد أنها انتهت إلى تمركز يبتعد عن كل من إيران والعراق، اللتين تنازعتا على قيادة المركب الإقليمي، ونازعتها عليه في الوقت نفسه. وفي الأخير، انتهى العقد السابع من القرن العشرين دون أن تكون هناك ملامح خيار أمني محدد على مستوى النظام الإقليمي الخليجي، ولم تكن هناك في الوقت نفسه مقاربة واضحة لهذا الأمن على صعيد قمة النظام الدولي، أو لنقل على صعيد السياسة الأميركية في المنطقة، وفوق ذلك كله كانت البيئة الدولية تمر بمرحلة عاصفة من الاستقطاب بين المعسكرين الشرقي والغربي. أما في العقود الثلاثة التالية، فقد انتقل النظام الإقليمي الخليجي من الحرب الباردة الإقليمية، إلى الصراعات العسكرية السافرة. وقد دخل أمن الخليج مرحلة إعادة التعريف الاستراتيجي منذ اللحظة التي قُدر فيها لعاصفة الصحراء عام 1991 أن تنهي القوة العراقية، وتُعيد رسم موازين القوى في الإقليم. في إعادة الرسم هذه، انهار التوازن الاستراتيجي الهش، الذي ساد الخليج في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وبعد 12 عاماً، جاء الغزو الأميركي للعراق ليمثل أحد النتاجات الكبرى لعاصفة الصحراء ذاتها. وهنا، دخل النظام الإقليمي الخليجي مرحلة جديدة على مستوى تفاعلاته الأمنية والسياسية. مرحلة تحركت فيها مواقع الفاعلين الرئيسيين في الإقليم، وتزايدت التفاعلات الصراعية فيه، وتعاظمت هواجس الفرقاء المحليين، كل وفق منظوره وحساباته الخاصة. كان الحدث تطوّراً مفصلياً بمعايير السياسية، لكنه لم يكن كذلك في حسابات التوازن الاستراتيجي، فالبيئة الاستراتيجية للخليج لم تدخل مرحلة إعادة تعريف، وحافظ النظام الإقليمي الخليجي على وضعه كنظام فاقد للتوازن الاستراتيجي، على النحو الذي ظل عليه منذ العام 1991، حينما عُزل العراق وحيّد استراتيجياً. وبعد خمسة عقود من التوترات الإقليمية، من الجدير اليوم التأكيد على حقيقة أن استقرار الخليج لا يُمكن إسناده إلى مبدأ توازن القوى. دعونا بداية نتحدث قليلاً عن مفهوم توازن القوى ذاته. على الرغم من قدم هذا المفهوم، حيث بلور دارسو العلاقات الدولية نظرية خاصة به في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عُرفت باسم"النظرية التقليدية لتوازن القوى"، إلا أن أهميته كأداة لإدارة الصراعات ما بين الدول القومية، كما رأى هانز مورجنتاو- أبرز من أثرى النظرية الواقعية الكلاسيكية – على نحو يحول دون تصاعدها إلى حد الحرب الكبرى، برزت مع بزوغ نجم النظرية الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة وأفول النظرية المثالية. وقد قدم منظرو المدرسة الواقعية وغيرهم، تعريفات عدة للمفهوم، مع ملاحظة أنّ اهتمامهم به، كترتيب أمني كان على المستوى الدولي وليس على المستوى الإقليمي. ولذلك، كان التطبيق المثالي له، في توازن القوى بين القطبين الشرقي والغربي طوال فترة الحرب الباردة. ومع بروز المدرسة الإقليمية منذ سبعينيات القرن العشرين، وتنامي إسهامات روادها، تردد اعتبار النظم الإقليمية كنظم فرعية عن النظام الدولي، ومع التحفظ على هذه الرؤية، فإنه يُمكن التسليم بكون هذه النظم صورة مصغرة للنظام الدولي، من حيث التركيب والتكوين، لا من حيث حجم القوى المحركة للتفاعلات بين الوحدات المكونة لها، ومن ثم ذهب البعض للقول باستدعاء هذا الترتيب الأمني في النظم الإقليمية. وقد حدد مورجنتاو عنصرين أساسيين يرتكز عليهما مبدأ توازن القوى: الأول، مادي، ينصرف إلى وجود تعادل حسابي على مستوى القدرات العسكرية للأطراف المعنية. والثاني، إدراكي، خاص بتوافر إدراك، لدى هذه الأطراف بأهمية وجود ذلك التعادل، باعتباره الوسيلة المثلى للحفاظ على الأمن. ووفق مورجنتاو، فإن توازن القوى يجب أن يستند إلى قدرات ذاتية على نحو حصري، في حين قال كينيث والتز، أحد أبرز منظري الواقعية الجديدة، بإمكانية تحقيق التوازن عبر مزيج من عناصر القوة الداخلية والخارجية. من جانبنا، لا نرى رجحاناً في الأخذ بمبدأ توازن القوى، كسبيل لتحقيق الأمن في الخليج، وذلك للأسباب التالية: أولاً، الاختلال الكبير في التوزيع النسبي للقوة بين دول الإقليم، وهو الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى توازن غير حقيقي أو غير مستقر للقوى. ولعل الصورة المباشرة والمرئية لهذه المعضلة تتبدى بوجه خاص في حسابات القوة العسكرية في الإقليم. وفي الإطار الكلي لهذه المقولة، هناك ثلاثة أبعاد لمعضلة التفاوت في القدرات بين وحدات النظام الإقليمي الخليجي: الأول مادي، يرتبط بطبيعة المقومات المادية، الجغرافية والبشرية والاقتصادية. والثاني معنوي، يتعلق خاصة بالخبرة القتالية والتصنيع العسكري والبحوث الأمنية والعلوم العسكرية عامة. البعد الثاني، يرتبط بإمكانية انتعاش مناخ الاستقطاب السياسي، ودفعه باتجاه حرب باردة إقليمية، ترمي بظلالها السالبة على فرص الاستقرار. أما البعد الثالث، فيتبدى في خطر نشوب سباق تسلّح إقليمي، وهذا ما شهده الخليج فعلياً لسنوات طويلة. وننتهي من كل ذلك للتأكيد على أن خيار توازن القوى لا يبدو خياراً راجحاً في معادلة النظام الإقليمي الخليجي، ولا يبدو جديراً بدول المنطقة اعتماده كأساس لأمنها، أو كدليل لعلاقاتها البينية. بيد أن هذا القول لا يعني، بحال من الأحوال، عدم حاجة دول المنطقة للتسلّح وبناء القدرات الدفاعية. إن أحد الخيارات التي يُمكن افتراضها لبناء الاستقرار في الخليج، يتمثل في دخول دول الإقليم الثماني، منفردة ومجتمعة، في شبكة مصالح متداخلة على نحو وثيق، بحيث يقود ابتعاد، أو استبعاد، أي طرف منها إلى خسائر غير محتملة. وهنا يتحقق ما يُمكن أن نصطلح عليه ب "الأمن من خلال الازدهار". ونعني به ازدهار فرص التنمية الإقليمية. هذا الخيار جدير بالاهتمام، لكونه ينسجم مع مبدأ التعاون الإقليمي بمدلوله العام، ولأنه عديم المخاطر على العلاقات البينية بين دول الإقليم، وهو لا يصطدم، من جهة أخرى، مع الخصوصيات المحلية لهذه الدول، ولا يتعارض مع سياسات التكامل الفرعية القائمة بالفعل. إن دخول دول المنطقة في شبكة مصالح اقتصادية هو بالتحديد جوهر المنظور التنموي للأمن الإقليمي، الذي أثبت نجاحه في مناطق وأقاليم مختلفة من العالم.
مشاركة :