أين ذهبت روح مدينة المدن

  • 1/9/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كان صديقي الصحافي الخليجي “…” مثلي لم يزر البصرة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي عندما كان مراسلا لإحدى الوكالات العالمية، لكنه كان هناك أيام بطولة كأس الخليج العربي، وتحدث معي عله يعيد الأوقات التي قضيناها معا في منتصف الثمانينات في البصرة عندما كانت بصرة، وفق التعبير الإيحائي لمحبيها من عرب الخليج. كانت رحلتي الأخيرة إلى البصرة في الطائرة من بغداد عام 1989 ومن حسن الحظ كانت برفقة الراحلين الشاعر عبدالوهاب البياتي والقاص غازي العبادي والناقد حاتم الصكر. تسنى لي أن أحضر الاحتفاء بالبياتي آنذاك وقدمه الشاعر الراحل حسين عبداللطيف، ومن يومها بقيت البصرة بعيدة عني ببعد المسافة عن أمل العاشق الضائع على ضفاف شط العرب، بينما توقفت رحلات صديقي المراسل الصحافي إلى المدينة مع انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، ومن حسن حظه عاد إليها الأسبوع الماضي، عله يجد شيئا من نثار الأغاني التي تركها هناك. قال لي “ليست تلك بصرتي، لا أعني تغيير أغلال العقد المصفد وفق تعبير وليم بليك، فالمدن لا تكتفي بمعمارها إن فقدت روحها، ولم أجد تلك الروح في البصرة، كنت أتساءل أين مدينة المدن؟”. استذكر صديقي الصحافي مقهى الأدباء في البصرة القديمة مقابل أشهر مكتبات المدينة وصخب شارع بشار بن برد و”ماريا بار”. قال حاولت أن أجد أثرا من تلك المقاعد العتيقة، أو أستذكر ضحكات الشاعر الراحل عبدالخالق محمود ومجيد الموسوي أو جدل حسين عبداللطيف وتساؤلات كاظم الأحمدي التي يقابلها مزاح كاظم الحجاج وصمت محمد خضير، لكن لا شيء بقي من تلك الروح. لو عدت يا صديقي لا تجد من تطلق عليه أسئلتك الحائرة عن تاريخ المدينة، كما كنت تفعل مع المؤرخ الراحل حامد البازي، وحتى الغناء ضاع منها يا كرم، فمن أين للمدينة بترانيم الملحن ذياب خليل! “يا الله كم أغنية توهجت آنذاك”. دعونا نعيد هذا السؤال اليوم على جبار النجدي عله يعيد صياغة قلادة الغناء العراقي. هل تتذكر شارع الوطني الذي لا ينام؟ كان صديقي الصحافي الخليجي يتحدث معي بقدر الشغف الذي مارسناه معا في ليالي المدينة، بينما كانت القنابل الإيرانية العمياء لا تختار أهدافها. لا شيء بقي من روحها، هكذا قال، عندما تقفل أبواب المسرات تذبل المدن. كان صديقي وهو يرسم صورة ذاتية لفينيسيا الشرق، لا يبالي بالمعمار، بقدر ما كان يبحث عن مشاعر المدينة التي يعشقها، وبعد أكثر من ثلاثة عقود وجد أنها مثل أعمار البصريين التي باتت تذروها رياح تخلف حكم الميليشيات. استمر صديقي في الحديث وكأنه كان يعرف أسئلتي المؤجلة عن المدينة التي عشت فيها طالبا جامعيا وصحافيا معا. وهو يسرد يومياته المتأخرة أكثر من ثلاثين عاما عن مدينة أحبها، وكان يشعر أن أجداده تركوا شيئا فيها قبل أن يغادروها إلى ضفاف الخليج العربي. قال لي “لم آت إلى البصرة من أجل كرة القدم التي لا أتنازل عن عشقها، لكنني عدت إليها من فرط أنانية مشاعري تجاه المدينة التي لم تغادر ذاكرتي، مع كل المحن التي عاشتها”. منذ أسبوع وصديقي يدور، ولم يفضل أن يذهب إلى “5 ميل” و”وان بي” كي لا ينهار أمام أوجاع أناس يعيشون على هامش الحياة. مر حزينا على الزبير فوجدها معزولة عن بصرتها ويراد لها أن تغادر التاريخ! استذكرتُ هنا معه قصيدة “الزبير” لشاعرها حسين عبداللطيف التي أخذتها معي إلى بغداد مع تخطيطات الفنان خالد خضير ونشرت في صحيفة الجمهورية آنذاك. قال لي ليست وحدها يا كرم، هل تتذكر قصيدة “رهط الطير في حضرة العراق”؟ سأنتظر ما يكتبه صديقي المراسل الخليجي عن البصرة، عله يعيد أملا مفقودا!

مشاركة :