يعاني بعض المثقفين من نرجسية حادة تخلق له أزمات ومتاعب وحساسية مفرطة تجاه كل طرح ورأي ووجهة نظر. فيما يسعى آخرون إلى الشهرة لتتحول إلى هوس مرضي بالبقاء في مساحة الضوء مهما تواضع حجم المنجز أو تقدم به العمر. في حين يزهد المبدعون الحقيقيون في الضوء وينحازون للهامش ليظل نتاجهم في المتن. وبين زهد البعض وتكالب الأكثرية تحاول «عكاظ» استقراء وجهات نظر مثقفين وإعلاميين وعلماء نفس حول هذه الإشكالية التي نحن جزء منها في عالمنا العربي وربما في الكون أجمع. ويؤكد الكاتب الدكتور عبدالله الكعيد أن الموضوع يهم ويعني علماء النفس، ولست أزعم نفسي من هؤلاء، ولكني أظن أن من يرى بأنه مخلوق متميز عن غيره ومصطفى على سواه فهو بلا شك إنسان غير سوي مهما كانت مكانته أو علمه أو ماله أو شهرته. ويرى أن الشهرة مخادعة للنفس الهشة وتدخل صاحبها غير المتوازن في دوائر الخيلاء، فلا يرى في الكون إلا ذاته، ومن كانت هذه حاله لا شك بأن سينسى مم خلق ويتعالى على آدميته وبالتالي بقية المخلوقات. وأضاف لا أستطيع الجزم بعقدة النقص، فهذا شأن أصحاب علم النفس ولكن ربما أجنح إلى القول بأن من تأتيه الشهرة أو المنصب أو المال على حين غرة وهو غير أهل لها، فهو سيصاب بشحنة موجبة تنسية حقيقته المرضية وقد لا يصحو إلا على صدمة تعيده إلى حاله ووضعه الطبيعي. فيما يرى الروائي عواض العصيمي أن العزلة خيار أولا يختارها من يزهد في الإعلام وينأى عن الأضواء لاعتقاده أن تمسكه بحياة هادئة محصنة من الفضوليين تكسبه خصوصية هو في حاجة ماسة إليها، مستعيدا نوعية من الكتاب منهم الكاتب الأمريكي سالينغر والروائي الألماني باتريك زوسكيند وإلى حد ما الكاتب الأمريكي فيليب روث وغير هؤلاء. وأضاف العصيمي هناك كتاب يقيمون جدارا عازلا بين الإعلام وبين حياتهم الأسرية مثل التشيكي ميلان كونديرا، لافتا إلى أن هذا الضرب من العزلة الاختيارية لا تثير حساسية الصحفيين ومتابعي حياة مشاهير الكتاب في العادة لأن التلصص على الخصوصيات يمنعه النظام ويحاسب عليه، مشيرا إلى أن من يرى الشهرة التي حصل عليها (وقد تكون شهرته مضروبة) تسمح له بالاستعلاء على الناس فلا شك أنه ضحية مرآته المحدبة التي استودعها صورته وهو أبعد ما يكون عن مفهوم الثقافة في إطاره الإنساني وبعده الأخلاقي لأن الثقافة عموما تهذب النفس وتشذب حب الذات وتمنح الإنسان تواصلا أعمق وأخصب مع الآخر. فيما يذهب الإعلامي علي فائع إلى أن الشهرة أحيانا لا علاقة لها بالعزلة والتضخم كون هناك أناس كثيرون الشهرة تزيدهم تواضعا وانفتاحا على المجتمع والناس، لافتا إلى أن المتورمين وحدهم تعزلهم الثقافة والمعرفة وتحجب عنهم الحياة، مرجعا ذلك إلى أسباب نفسية ترتبط بشكل مباشر بشخصية الإنسان وتركيبته الاجتماعية التي تشكل وعيه قبل ثقافته، وحضوره وتواصله قبل معرفته، مؤكدا أن لدى بعض الموصوفين بالثقافة مفهوم مغلوط عن الشهرة ما يخلق عندهم لبسا كبيرا في مفهوم معنى الحياة. ويرى أن المثقف الذي ينظر لنفسه على أنه مخلوق آخر سيموت ولن يبقى له ذكر، وكل ما يحمله في داخلة من عقد سترتد عليه إن حيا وإن ميتا. ووصف السعي إلى الشهرة بهوس الفارغين، ويتفق القاص الإعلامي حسن آل عامر مع رؤية فائع، مشيرا إلى أن الشهرة لا تكون سببا رئيسا في النرجسية، إذ أن هناك من المشاهير من يتمتع بأريحية وتواضع جم، وهو مبدع حقيقي عكس «ربع مبدع» أو حتى عديم الإبداع نجده نرجسيا حد الهيام بذاته، مع توهمه الشيء الكثير وأنه يملك من الحضور والإبداع ما لا يملكه الآخرون، ما يدفعه لاحتقار أي عمل لا يتسق مع رأيه أو توجهه، مؤكدا أن المشكلة الأساسية في هذه الشخصيات هي مشكلة نفسية أكثر منها إبداعية. ويلفت عامر إلى أن الأدهى أن تجد حول النرجسي مطبلين كثرا يزيدونه غرورا ونرجسية وهم أول من سيذهب عنه عند أدنى مشكلة تواجهه. فيما يشخص أستاذ علم النفس المساعد بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور صالح يحيى الغامدي الإشكالية منطلقا من كون الشهرة تلبي حاجة فطرية، وغريزية لدى الإنسان، وغالبا ما يندفع الإنسان إليها بطريقة أو بأخرى ليشبع دافعا نفسيا لديه ولا ضير عنده في ذلك، ويرى الغامدي أن البعض من المشهورين قد يلجأ إلى طرق غريبة وغير مقبولة عندما يصل إلى هذه الشهرة ولا يعلم أنه مصاب بـ «متلازمة التحول» التي تجعله يتحول وفقا للشهرة التي تحققت له. فتارة ينصاع لإرضاء الآخرين، وتارة أخرى لا يتقبل البعض، كما أنه يتحول من شخص ملتزم بمبادئ ما قبل هذه الشهرة إلى شخص مساير لما يفرضه عليه واقعه الجديد وهنا تصبح الشهرة قناعا لواقع نفسي خفي يضر بالفرد، ولا يرغب في أن يكتشفه أحد، مؤكدا أن هذه الحالات مؤشر على الدخول في الأمراض النفسية التي يصاب بها الإنسان بسبب خلل في أهم مكونات شخصيته، متمثلا في تضخم الأنا الذي يؤدي به إلى حب الظهور، والتباهي بذلك، ويصل به الحال إلى تحقير الآخرين وازدرائهم، ليرضي ذاته المتضخمة، مشيرا إلى أن أزمة (الأنا) تحدث صراعا داخليا لدى الشخص المشهور فيقع البعض بين (الأنا) التي كانت في الظل ولا هم لها سوى الوصول إلى الشهرة، وبين أنا الشهرة ما يفرض على هذا المشهور المضطرب استخدام مجموعة من الحيل النفسية ويلجأ إلى مجموعة من الأقنعة التي تتناسب مع وضعه الجديد، وتخفف التوتر الذي تستحدثه هذه الشخصية المريضة في حال الشهرة. مؤكدا أن من أبرز تجليات هذه الشخصية المريضة الانغماس كثيرا في استخدام «الحيل النفسية» لتخفيف التوتر ما يعيق النمو النفسي السليم لهذا الشخص وبالتالي تضطرب شخصيته، ما يسبب ابتعاد الناس عنه، وتعرضه للنقد الدائم من قبل الآخرين، ليتعرض للضغوط النفسية الناتجة عن لبس هذه الأقنعة غير السوية، التي يخشى أن تكتشف من قبل الآخرين. ونصح بالتوازن بين واقع الفرد الحقيقي وبين ما تمنحه الشهرة من آمال وتطلعات وتغيرات قد تطرأ على شخصيته. وأضاف عليه أن يكتشف الحيل النفسية غير المتوافقة وتجنب اللجوء إليها بشكل متزايد مهما كان توتره، والتعرف على كيفية مواجهتها، ودعا من يرغب في الشهرة وسعى حثيثا للوصول إليها أن يتسامى بذاته عن حب الظهور، وازدراء الآخرين وتجاوز السمات السلبية التي قد تضر به، ويمكنه أن يستخدم الشهره بشكل متوازن لا إفراط أو تفريط، وليحافظ على شخصيته وما عرف عنه قبل الشهرة بعيدا عن زيف الأقنعة التي تضر به.
مشاركة :