بالرغم من الحراك السياسي الكبير الملحوظ في المشهد الأردني؛ سواء على صعيد تصويب أوضاع الأحزاب القائمة (وفقاً لقانون الأحزاب، المطلوب أن تصوّب أوضاعها حتى شهر مايو/ أيار العام الحالي) أو تشكّل أحزاب جديدة، فإنّ هنالك نظرية مهيمنة في أوساط النخب ونسبة كبيرة من الشارع تتمثّل بحتمية فشل التجربة الحزبية، وعدم قابليتها للتطبيق ضمن الوضع الحالي في الأردن. ينطلق أصحاب نظرية الفشل من خلفيات واعتبارات وفرضيات متنوّعة ومختلفة؛ منهم ذوو خلفيات موالية تقليدياً وآخرون من خلفيات معارضة؛ أمّا التقليديون فيؤسّسون دعواهم على أكثر من فرضية؛ الرئيسية أنّ التربة المجتمعية والثقافية الأردنية غير مناسبة لنمو الأحزاب فيها، وهنالك تجارب سابقة تؤيد ذلك، والبنية الاجتماعية الأردنية تقوم على العشائرية والولاءات التقليدية، فإقحام التجربة الحزبية في بيئة كهذه سيؤدي إلى تشويه التجربة نفسها وإرباك المجتمع. على الجهة المقابلة، يؤيد فريق من المعارضين نظرية فشل التجربة الحزبية، ولكن من منظور مختلف، يقوم على أنّ الدولة غير جادّة في إنضاج التجربة الحزبية بصورة طبيعية، وأنّ ما يحدث في الأردن بمثابة "هندسة حزبية"، وأطلق مراقبون عليها "أحزاب الأنابيب" كناية عن ارتباطها العضوي بالسلطة، وبالتالي، هي ليست تجربة ذاتية ولا مساراتها صحية، وستؤول إلى الفشل السريع، أو الإفشال إذا تغيّرت الأجندة الرسمية كما حدث قبل عقد تقريباً مع السياسي الراحل، عبد الهادي المجالي، الذي أسّس حزب التيار الوطني، وحظي بدعمٍ رسمي، وأصبح يملك الأغلبية البرلمانية قبل أن تتغيّر أجندة الدولة ويتقلص الحزب ويتراجع إلى درجة كبيرة. مناقشة مستقبل التجربة الحزبية الأردنية أكثر تعقيداً من إصدار أحكام بالنجاح أو الفشل مسبقاً عليها لا يمكن إنكار (أو تجاهل) وجاهة الحجج السابقة وقوتها وواقعيتها، فالعمل الحزبي ليس قراراً سياسياً وليس وليد اللحظة، فهو مرتبطٌ بعملية تاريخية سياسية وببيئة سياسية تعزّزه، أو تدفع نحو فشله، فضلاً عن أنّ هنالك اليوم مشكلة كبيرة تواجه الأحزاب في العالم، وهنالك نكوص واستنكاف من شرائح واسعة من جيل الشباب من المشاركة في العمل الحزبي، وفجوة بين النخب السياسية والشارع، في مقابل صعود ملحوظ للسياسيين ذوي النزعة الشعبوية الذين نجحوا باختطاف أحزاب سياسية لصالح أجندتهم، أو في بناء تجربة حزبية جديدة صعدت سريعاً تحت تأثير تلك النزعات الشعبوية. مناقشة مستقبل التجربة الحزبية الأردنية أكثر تعقيداً من إصدار أحكام بالنجاح أو الفشل مسبقاً عليها، لأنّ هنالك ديناميكيات وشروطاً تدفع إما إلى النجاح أو الفشل، بخاصة أنّنا لا نملك نظرية واضحة في "علم الأحزاب السياسية" يمكن أن نقيس عليها التجربة الأردنية، فأغلب الأحزاب الكبرى في العالم إما تطوّرت تلقائياً من خلال الكتل النيابية أو أنّها ارتبطت بمنظماتٍ كبيرة خارج البرلمان، مثل نقابات العمال، أو أنّها ارتبطت بحركاتٍ اجتماعية تحوّلت إلى عمل حزبي، وغالباً عكست مصالح طبقات برجوازية أو عمّالية أو طيفاً أيديولوجياً معيناً، أو كانت مرتبطةً بالتحولات الاقتصادية - الاجتماعية ونشوء مصالح اقتصادية جديدة ترتبت عليها مصالح سياسية. أمّا أردنيّاً، فنحن أمام شروط مختلفة ومغايرة ترتبط برغبة من الملك بتطوير النظام السياسي، بعد أن تبين خلال الأعوام الماضية أنّ الاستمرار في الطريقة التقليدية الحالية في تشكيل الحكومات أدى إلى أزمات ومشكلات كبيرة، وخلق فجوة ثقة كبيرة بين الطرفين، فضلاً عن أنّ اعتماد قانون الانتخاب على نظام يعزّز الولاءات التقليدية والجهوية كرّس الهويات الفرعية بوصفها وسيطة بين الفرد والدولة، ومع اقتصار المشاركة السياسية على شرائح وقواعد اجتماعية دون الأخرى، وبنسب مشاركة (في الانتخابات النيابية) متواضعة. نتائج إيجابية كبيرة تحقّقت في عام واحد فقط، فالحراك الحزبي كبير، وهنالك إعادة بناء للمشهد الحزبي إذاً، انطلقت فكرة تطوير قوى حزبية ذات ألوان متنوعة ومتعدّدة من اعتبارات إصلاح النظام السياسي بدرجة موازية لاعتبارات النخب والأحزاب السياسية، وتشكّلت لجنة تحديث المنظومة السياسية، والاسم بذاته مؤشّر على الغاية والهدف، لتحقيق ذلك، وقدّمت مقترحات، تم إقرارها، لقوانين أحزاب وانتخاب تمثل قفزة حقّاً في الحياة السياسية الأردنية وفي العمل الحزبي، لأنّها أجبرت الأحزاب الضعيفة (وكثير منها كان أقرب إلى دكاكين صغيرة)، كشفت دراسة "على أعتاب التحول: دراسة ميدانية للأحزاب السياسية الأردنية" (صدرت عن معهد السياسة والمجتمع) أنّها تتسم بظاهرة "الهرم المقلوب"، أي تكدّس الجميع بالقيادة وغياب القاعدة الاجتماعية. بالإضافة إلى ما سبق، انطلقت ورشة عمل كبيرة في البلاد شملت تطويراتٍ وتغييراتٍ على مناهج المدارس وأنشطة وخلوات وورشات عمل في الجامعات لكسر الجدران الثقافية والنفسية بين الشباب والعمل الحزبي، ومحاولة إدماج جيل الشباب في الأحزاب التي من المفترض أن تعيد صوغ النقاش العام في البلاد وتوجيه طاقات الشباب بالاتجاهات الإيجابية في المجال العام (بديلاً عن ظواهر خطيرة، مثل الاستنكاف، أو الاتجاه نحو التطرّف، أو حتى انتشار المخدّرات)، ودفعهم إلى التعبير عن مصالحهم وهواجسهم وأهدافهم ورؤاهم من خلال أحزاب سياسية وبرامج واقعية وعمل سياسي قانوني ومشروع. للأمانة؛ ثمّة نتائج إيجابية كبيرة تحقّقت في عام واحد فقط، فالحراك الحزبي كبير، وهنالك إعادة بناء للمشهد الحزبي، بما يخرج الأحزاب الضعيفة من المشهد السياسي، ويبقي على أحزاب قادرة على المنافسة، وكذلك كسر الحواجز بين جيل الشباب والعملين، السياسي والحزبي، وتسييس قاعدة اجتماعية واسعة، كانت تعتقد أن الولاء يتعارض مع العمل السياسي العام، أو أنّ العمل الحزبي رجسٌ من عمل الشيطان، والأهم من ذلك كله الانتقال إلى البنية التحتية التأسيسية من الوعي السياسي، أي المدارس والجامعات، وتمّ تخصيص جزءٍ كبير من برامج المجتمع المدني لتطوير قدرات الأحزاب السياسية، كما أنّ هنالك برامج إعلامية خصصت لتطوير الوعي الحزبي وتشجيع الشباب على الانخراط فيه. شريحة اجتماعية واسعة من المواطنين الأردنيين، خصوصا في المدن الكبرى، لديها استنكاف عام عن العمل الحزبي والسياسي مع ذلك، بالضرورة تبقى هنالك تحدّيات كبيرة وحقيقية، بل جبال من العوائق من الضروري إزاحتها من أمام طريق تطوير العمل الحزبي، لكن المفتاح الرئيس للتعامل مع ذلك يتطلب الإيمان بأنّ المسألة ليست "عصا موسى"، بل عملية تطوّرية ومراحل متعددة، بدأت الآن، وقد تتعرّض لانتكاسات ومشكلات، لكن المهم أن تتشكّل وتتطور، لأنّها خيار استراتيجي للوصول إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب. التحديات التي نتحدث عنها مقسّمة إلى أكثر من مستوى وطرف؛ بعضها مرتبط بالدولة نفسها وهواجسها والمحدّدات المرسومة للعملية الحزبية والمخاوف التقليدية من انفلات الأمور والفوضى، وسنجد أنّ هنالك من يستدعي من ذاكرة النظام حكومة سليمان النابلسي في العام 1957، التي دخلت في صدامٍ مع الملك الحسين، وهنالك خشية تقليدية من المعارضة الأيديولوجية، بخاصة جماعة الإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي، وهو ما أحدث ما سمّي عربياً (وليس فقط أردنياً) ثنائية النظام والإسلاميين، خصوصا أنّ الإسلاميين والأحزاب الأيديولوجية متقدّمة بخطوات واسعة عن الأحزاب الجديدة. وهنالك تحدّيات على صعيد البنية الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية؛ فلا تزال ثمّة شكوك كبيرة لدى شريحة اجتماعية واسعة بمدى جدّية الدولة في فتح المجال للأحزاب، وهنالك شريحة اجتماعية واسعة من المواطنين الأردنيين، خصوصا في المدن الكبرى (ممن يحملون الرقم الوطني من أصول فلسطينية)، لديها استنكاف عام عن العمل الحزبي والسياسي، نتيجة تراكمات سياسية طويلة، بينما تمثل مشكلة البطالة هماً كبيراً لأغلب الشباب الأردنيين، الذين يرون أن أولويتهم الوحيدة توفر فرصة عمل، ولا يرون العمل الحزبي أولوية لهم. لا يمكن أن ترسل الدولة رسائل متناقضة ومتضاربة في الوقت نفسه، تراجع في الحريات العامة والإعلامية ومستويات حقوق الإنسان وتوجّه نحو العمل الحزبي وهنالك تحدّيات على مستوى الأحزاب السياسية نفسها، على أكثر من صعيد (كما أشار كتاب محمد أبو رمّان وعبد الله الجبور "على أعتاب التحوّل ..."، 2022) سواء على صعيد ضعف القاعدة الاجتماعية، وغياب المؤسسية وهيمنة الفردية على العمل الحزبي، وضعف الرسالة الإعلامية والاتصالية، والعجز عن مخاطبة الشارع بلغة جديدة مقنعة. ويضاف إلى هذه التحدّيات أنّ هنالك قناعة عامة منتشرة بوجود وصاية رسمية على تطور العمل الحزبي ودعم لتجارب معينة، وقفز لمسؤولين ووزراء سابقين ليقودوا العملية الجديدة، فهي، كما يقول الخصوم، إعادة تدوير أو تشكيل النخبة السياسية، لكن من العلبة نفسها! بالضرورة، إذا نظرنا إلى تلك التحدّيات، فهي ليست بسيطة، وهي كبيرة، وقد تدفع إلى التشاؤم. وفي المقابل، ثمّة دوافع وعوامل في الاتجاه المقابل قوية وكبيرة، منها التعطش الكبير لدى نسبة كبيرة من الشباب الأردنيين للعملين، السياسي والحزبي، منها أنّها المرّة الأولى التي تترجم فيها النيات الرسمية إلى سياسات وبرامج عمل، وخريطة طريق تتسرّب إلى التعليم والمجال العام، ومن يراقب المشهد خلال فترة قصيرة، يدرك أنّه بدأ يختلف، وأنّ هنالك تمدّداً وتطوّراً في العمل الحزبي أفضل مما سبق. بقيت هنالك شروط مهمة ورئيسية ستكون هي الامتحان الحقيقي في مدى نجاح التجربة الجديدة وفشلها، وأشير هنا إلى شرطين رئيسين: الأول، تغيير المناخ العام في البلاد، والتحوّل نحو انفتاح حقيقي سياسي، فلا يمكن أن ترسل الدولة رسائل متناقضة ومتضاربة في الوقت نفسه، تراجع في الحريات العامة والإعلامية ومستويات حقوق الإنسان وتوجّه نحو العمل الحزبي، فكما ذكر الكاتب سابقاً، أشبه بحالة شيزوفرينيا، فالمطلوب تخفيف المنظور الأمني الذي يحكم المجال السياسي، وتحسين مناخات الحريات والحقوق الأساسية، وغنيٌّ عن التذكير أن سجل الأردن تراجع بصورة ملحوظة في تقييم مؤسسات دولية معتبرة مثل بيت الحرية وهيومن رايتس ووتش. ويتمثل الشرط الثاني في نزاهة الانتخابات وحيادية الدولة الكاملة، وعدم التدخل في العملية الانتخابية المقبلة، وأن يترك الأمر للأحزاب السياسية لتقوم هي بواجباتها في مخاطبة الجمهور، وفي بناء القاعدة الشعبية، وفي اكتساب أصوات الناس. في المقابل، أي تدخل من الدولة أو إخلال بحياديّتها وبنزاهة العملية الانتخابية سيؤدّي إلى إجهاض كامل للتجربة الحزبية، لكن ما هو أخطر من ذلك في مصداقية النظام ورصيده السياسي، وسيكون خطيراً في نتائجه وتداعياته. لكل تجربة سياسية شروطها وحيثياتها التاريخية والمجتمعية والثقافية والسياسية، والتجربة الأردنية أيضاً مرتبطة بمثل هذه المحدّدات الكبيرة، لكن الأردنيين حاليا أمام مفترق طرق حقيقي في العمل السياسي؛ إما أن ينحجوا في تطوير العمل الحزبي وتحديث المنظومة السياسية بصورة عقلانية ومتدرّجة، تتجنّب ما حدث في دول أخرى، وتتعامل مع التحدّيات بذكاء، أو أن يعودوا القهقرى إلى وراء، وهو سيناريو سيئ، ودلالة ذلك الأزمات السياسية أخيرا، التي أظهرت تخبّطاً وضعفاً من الدولة في التعامل معها. العربي الجديد
مشاركة :