قال أبو عبدالرحمن: ذكرت كثيرا في مقالاتي وكتبي أن الفلسفة العامة ليست شيئا سوى (نظرية المعرفة والعلم).. [الضم على الحكاية]، وما يؤول إليهما من ضرورات الحس والفكر؛ وما عدا ذلك فهو تأملات فردية تحكمها تركيب الخيال إن كان المتأمل نزيها، أو تكون (دعوى تأمل) يحكمها اتباع الهوى، والحمية، وحب بعد الصيت إن كان مدعي التأمل غير صادق مع نفسه، وغير رائد نزيه للمتلقي.. ومعضلة الزمان ذات فلسفة وسيعة عريضة في كتب الفلسفة؛ وليس الزمان شيء تلمسه اليد، أو تراه العين.. إلخ، منافذ الحواس الخمس؛ وإنما هو علاقة بين محسوس ومحسوس يعبر عنها بمثل قبل وبعد، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، والفجر، والضحى، والظهر.. إلخ؛ وتأتي المعضلة الثانية بأن الزمان لا بداية له ولا نهاية، وهو على قسمين: زمان سرمدي إن فرض أنه لا توجد محسوسات يضبط بتعاقبها الزمان بقبل وبعد، وماض.. إلخ.. والقسم الثاني زمان يعكس ذلك، وهو ما يضبط بمحسوسات على نحو ما سبق. قال أبو عبدالرحمن: إلا أن المؤمنين بالله سبحانه وتعالى وبرسله عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته يعقلون ماهية الزمان مما جاء من عند ربهم في خبره الشرعي؛ لأنه سبحانه وتعالى هو خالق العقول والمدارك والوعي والحس.. كما أنهم يعقلون ماهية الزمان من آيات الله في الأنفس والآفاق اللواتي تـحصل بهن الفرق بين العاقل وغير العاقل، وبين العالـم والجاهل؛ ولهذا كان مفهوم الزمان عندهم أنه لا وجود لزمان سرمدي في حق الله سبحانه وتعالى؛ وإنما الزمان السرمدي في حق مخلوق غاب عنه عقله إما بمرض قدره الله عليه، وإما بتغيبه عقله بشربه الخمر حتى أصبح يرى الديك حمارا؛ فهذا لا يعلم أهو في صبح أو مساء، ولا يرى شمسا ولا قمرا.. ومن مقومات هذه المقالة ما سيأتي إن شاء الله تعالى عن معاني السرمدية في كتب المصطلحات؛ وهكذا معاني الوقت؛ وحسبي الآن الكلام عن معنى الزمان في اللغة والاصطلاح؛ فالزمان في اللغة العربية وعرف الناس بلغاتهم ليس شيئا وجوديا؛ وإنما هو علاقة بين شيئين مثل الرقم 1 و2 و3... إلخ؛ فإذا تحققت العلاقة أصبح الرقم صفة للشيء، فالرقم 2 ليس شيئا إلا إذا وجد شيئان يكون الاثنان صفة لهما؛ وأنت تـميز بينهما بعلاقة تقدم الواحد على الاثنين مثل (قبل) و(بعد)؛ فلا معنى لاثنين إلا بوجود واحد قبله في الوجود، أو الرتبة، أو الجهة من اليمين؛ فالشيء الوجودي هو الذي يكون الزمان ظرفا له، والمعدود موجودات معينة تحصيها بالعدد؛ ولا معنى لثلاثة إلا بعد اثنين.. وما لا وجود لآخر معه بإطلاق، أو في مكان ما، أو في وقت ما يرتبط معه بعلاقة القبل والبعد وجودا أو رتبة.. إلخ: فصفته أنه واحد.. وشرط العلاقة المذكورة وحدة جامعة كالتمرة لأشخاص التمر، والثوب الذي صفته كيت وكيت لأشخاص الثياب بتلك الصفات؛ وهكذا موجودات مختلفة متفرقة بصفتها أعيانا تحصى؛ وإذ اتضح أن الزمان علاقة: فإن له خصوصية غير الأرقام مثلا؛ لعلاقتها بالمعدود؛ لأن تصور زمن سرمدي لا مظروف فيه: نسبي لا مطلق بالنسبة لشيء معين في حين معين.. والله سبحانه وتعالى محص كل زمن سرمدي في عرف البشر؛ لأنه سبحانه وتعالى قبل الزمن، ولا عدم ولا سرمد قبله جل جلاله؛ وليس عند الله عدم ولا سرمد؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الأول، وهو خالق الزمان وضوابطه؛ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر».. وليس الدهر من أسماء الله الحسنى؛ وإنما هو من أفعاله؛ لأنه المحصيماد الدهر، ومقدر تصرفاته، الآذن بها؛ فلا موجود في كون الله إلا بإذن الله.. وهذا الحديث الشريف من المجاز الذي يكابر فيه بعض القوم؛ والمعنى أن الله هو محصي الدهر، وهو المقدر الموجد أحداثه التي تقع فيه.. والزمان تصور حتمي ضروري لتوالي سكون وسكون، أو لتوالي حركة وحركة، أو لتوالي سكون وحركة، أو لتوالي حركة وسكون.. وكل هذه المتوليات لا يتصورها العقل إلا بعلاقة أول وثان وثالث، وسابق ولاحق.. حتى التواليات التي تكون دفعة واحدة بلا تفاوت بينها في علاقة أو سابق: لابد أن تكون سابقة أو تالية لمتواليات قبلها أو بعدها؛ وبهذا يكون الزمان قسمين: قسم سرمدي، وزمن مقدر؛ فالزمان السرمدي قسمان: زمن سرمدي ساكن ليس ظرفا لشيء؛ لأن ظرفه عدم محض؛ فلا قياس له إلا بزمن يتلوه مظروف حركي؛ فتقدر آماد السكون بآماد الحركة.. هذه هي الصورة التي لا يتصور العقل غيرها إذا لم يصل إلى علمه زمن حركي؛ ولكن صح بالبرهان أنه لا أول لمخلوقات الله إلا بسبق وجوده سبحانه على صفة الكمال المطلق، والتنزه المطلق عن كل نقص وعيب؛ لأنه جل جلاله غير معطل عن الخلق والتدبير لحظة {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (29) سورة الرحمن.. وصح بالبرهان أن الله الأول لا شيء قبله؛ فهو المحصي زمانا سرمديا لو وجد.. والقسم الآخر زمن سرمدي حركي قابل الضبط بحركات جرم يحصى عده.. إلا أن البشر لا يعلمون ذلك؛ فالسرمدي حركة وسكونا لا نهائي البداية، مجهول المقدار، وهو فطرة عقلية لتصور اللاتناهي بداية ونهاية؛ وذلك هو الزمان السرمدي؛ فالإيمان بما لا قبله (وهو الرب جل جلاله)، وما لا بعده (وهو ربنا سبحانه وتعالى): هو عقيدة المؤمنين والعقلاء؛ لأن تدبير ربنا لا نهائي (غير نهائي)؛ لأنه حي دائم قيوم باق فعال لما يريد؛ فكل هذا فطرة عقلية برهانية.. والقسم الثاني من أقسام الزمان هو الزمان المقدر بحركات أجرام مضبوطة القياس والبداية والنهاية كطلوع الشمس وغروبها، وهو محدد المقادير.. كل مقدار معروف اسمه في لغات البشر، والله سبحانه وتعالى لم يسبقه عدم ولا سكون، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان. ** كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع المسلمين-
مشاركة :