غادر الفنان التشكيلي السوري حسكو حسكو بلاده جرّاء الحرب، لكنها لم تغادر روحه وذاكرته بكل معالمها وتفاصيلها، ورغم أنه اعتاد الغربة وبدأ يطبع نفسه لتخلق لها روتينا خاصا في المهجر، إلا أن ريشاته وألوانه ولوحاته لم تتحرر بعد من سطوة الماضي، بل تراها تحاول استرجاعه لكن هذه المرة بنظرة مغايرة، تعيد قراءة كل شيء. هناك مثل شائع مفاده أن كل بعيد عن النظر هو بعيد عن القلب. لا يبدو أن لهذا المثل أي قيمة عند الفنان التشكيلي السوري حسكو حسكو، ابن قرية عفرين في شمال مدينة حلب، الذي استقر في الدنمارك بعد أن غادر سوريا إثر اندلاع الحرب على قارب نجاة فكُتب له الخلاص. فما هي إلا فترة قصيرة نسبيا حتى بدأ الفنان بالاندماج في وسطه الجديد ومن ثم مزاولة الفن. ومن المعروف عن الفنان أنه شارك في عدة معارض جماعية بلوحات رسمها في محطات مختلفة من الدنمارك قبل أن يجد لذاته حيزا ثابتا ويؤسس عالمه الخاص، ومن ضمنه الانطلاق بمعارض فردية، عالم الذي إلى الآن لم يكن انعكاس للمثل الشعب المذكور آنفا "كل بعيد عن النظر هو بعيد عن القلب". وقد ذكر الفنان سابقا أن لوحاته تلك في الفترة الأولى من إقامته المتنقلة في أرجاء الدنمارك اشتغل بعضها “في كراج سيارات لصديقي الدنماركي، الذي أعارني إياه لاستخدامه كمرسم، وبعضها في بيتي، أو في مدرسة خاصة أتدرب بها تدريبا لغويا، ولي زاوية هناك أرسم بها أيضا". حضرت الكائنات في لوحات حسكو حسكو كما حضرت اختزالاتها البصرية التي تدل عليها وعلى أثر موطئها الكائنات في لوحات الفنان حسكو حسكو حضرت باختزالاتها البصرية التي تدل عليها وعلى أثر موطئها عن طريق الصدفة علمت بأن الفنان أقام مؤخرا معرضا فرديا في إحدى صالات الدنمارك الفنية. وكان الفنان يعيش شبه اختفاء عن الساحة الفنية العربية ليصبح ربما في ذهن الكثيرين منا شبيها بشخوص لوحات: سارحا نحو أفق بعيد وغامض حيث لا “نحن”، إذا صح التعبير. حتى أن المُلصق الخاص بالمعرض مخطوط حصرا باللغة الدنماركية. عندما تواصلت معه واطلعت على الأعمال التي عرضها مؤخرا اكتشفت بأن الفنان “اشتد عوده” في بلاد الغربة وفي كل أعماله دليل قاطع على أن ما غادره في سوريا لا يزال يسكنه ليس كذكرى، بل كحال قائم إلى الأبد. مازالت في لوحاته رغم مرور السنوات مفردات الطبيعة التي ولد وعاش في كنفها الفنان تخالط روحه وتسيّر ريشته على مساحات قماشاته اللونية. كم جاءت معظم المشاهد خاطفة، بل أكثر من قبل. وعندما نقول خاطفة نقصد بأن الكائنات التي حضرت في لوحاته الجديدة، والتي كانت حاضرة أيضا في لوحات سابقة مع قليل من الاختلاف، جاءت وكأنها في لحظة انبثاقها من الضباب ومحظوظ كل من يراها قبل أن تغيب. غير أن هذا الضباب المُتشتت حينا والمُكدّس حينا آخر في فضاء لوحاته ليس فقط ظاهرة طبيعية، بل عنصر يذوّب الحدود ما بين الحقيقة والخيال، وما بين الحاضر والماضي البعيد. حضرت الكائنات في لوحات الفنان حسكو حسكو كما حضرت اختزالاتها البصرية التي تدل عليها وعلى أثر موطئها وتبعثرت وهي قيد التلاشي في لوحاته: حيوانات، وذئاب ووحوش أسطورية التي يبدو بعضها خيالات أو انعكاسات لبعضها الآخر. وهي لا تشكل تهديدا لما يحيط بها لأنها سيدة الأرض التي وضعنا أمامها الفنان السوري. وتحضر لوحة للفنان تكاد تختصر الأزمات التي تروضها الكائنات بهدوئها وهي اللوحة المتقشفة بألوانها ويبدو فيها عصفورا مكتنزا ناعس الطرف وهادئ الملامح ومستمدا هدوءه من سحر المساحات، المروج، الحقول الضبابية التي يسكنها وتسكن قلبه. ولعل أجمل ما يرشح عن أعمال الفنان حتى الآن هو رسمه بطريقة غير مباشرة لفعل المغادرة على أنه حلول وعادة لا لُبس فيها. ربما لأجل ذلك، وعلى الرغم من أهمية الكائنات التي رسمها ورمزيتها العالية، يبقى الحيز المكاني، الأسطوري الذي تعبر فيه كائناته هو الأهم. وعليه ربما تكمن الأهمية الأولى للكائنات في إشارتها إلى المكان الغرائبي الذي تسرح فيه بصمت غريب لا يتماشى أحيانا كثيرة مع ضخامتها وملامحها التي تحيلنا إلى مخلوقات ما قبل التاريخ وهي ترعى عشبا خرافيا فتهيم إلى هامش اللوحات حيث ينتهي العالم الذي تعرفه ويبدأ عالم آخر لا يسيل فيه الزمن ببطئ شديد بل بسرعة فائقة يعززها التناحر ما بين البشر في ما يُسمى بالمُعاصرة التقدمية. ◙ الفنان رسم سابقا عالما يعيش أزمات التشتت على أنها دخيلة ومؤقتة واليوم يرسمها على أنها المُستقر والمنتهى وإن كان الفنان رسم سابقا عالما يعيش أزمات التشتت على أنها دخيلة ومؤقتة فهو اليوم يرسمها على أنها المُستقرّ ومنتهى العالم. يُذكر أن الفنان السوري حسكو حسكو من مواليد 1973 بدأ مسيرته الفنية بفن النحت ولم يلبث إلا أن تحول إلى الفن التشكيلي باستخدامه للألوان الزيتية والأكريليك إضافة إلى مواد أخرى أعطت أشكاله المرسومة كثافة. تخرج من كلية الفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي في عام 2000، واستضافت صالة “عشتار” عددا من معارضه الفردية، إلى جانب “المركز الثقافي الفرنسي”، وغاليري التشكيلي “مصطفى علي” في دمشق. كما شارك في عدد من المعارض الجماعية، إما في سوريا أو خارجها، على سبيل المثال لا الحصر، معرضا في قصر “اليونيسكو”، وغاليري “فن في 56” في العاصمة اللبنانية بيروت، وأيضا في قاعة المتحف الوطني في مدينة السليمانية في إقليم كردستان العراق، وحصل على عدد من الجوائز منها جائزة النقاد في “معرض الشباب الثاني” بدمشق عام 2001، وجائزة نقيب الفنون الجميلة في “معرض الشباب الرابع” بدمشق عام 2003، إضافة إلى جائزة غاليري “أيام” للشباب السوري عام 2007. وعرض الفنان أعماله في لندن وبيروت وألمانيا والولايات المتحدة وقطر وتركيا وأرمينيا. وهو اليوم مقيم في الدنمارك ويشارك هناك في معارض جماعية عديدة ويقدم معارض فردية.
مشاركة :