عامان تقريبًا يفصلان بين مؤتمر جنيف ٢ بشأن سوريا، وبين مؤتمر جنيف ٣ في الشأن ذاته، والذي ما زالت تحيط الشكوك بفرص انعقاده اليوم (الجمعة)؛ بسبب خلافات حول تشكيل وفد المعارضة السورية. مجرد فكرة أن هناك جنيف واحد، وجنيف اثنين، وجنيف ثلاثة، لا تعني بالضرورة أن مسار المفاوضات يحرز تقدمًا من أيّ نوع، فتعدّد المحاولات قد يعكس مجرد (رغبة) المجتمع الدولي في إغلاق ملف بات بين الأكثر إزعاجًا على المستوى الإنساني بصفة خاصة، فيما يجتاح الصقيع سوريا وما حولها، بل إن الوصول إلى محطة جنيف ٣ قد يعني اعترافًا بالفشل في المحطات السابقة، ومع ذلك فإن ثمة تحوّلات، جرت في المسافة بين جنيف الثانية قبل عامين، وبين جنيف الثالثة التي من المفترض أن تبدأ اليوم، يمكن أن تسهم في تحريك المفاوضات باتّجاه حلٍّ ما. أخطر ما جرى من تحوّلات في الملف السوري، على مدى العامين الفائتين، صنعته تحوّلات درامية في مستويات تدخل القوتين العظميين (روسيا وأمريكا) في الملف. التحوّل الدراميّ الأوّل، بدأته واشنطن بمقاربات مع إيران، انتهت بتوقيع اتّفاق نوويّ بين طهران ومجموعة (٥+١)، ما أتاح رفع العقوبات الدولية عن إيران، وإطلاق أرصدتها المجمّدة في بنوك الغرب (أكثر من مئة مليار دولار)، ما قد يعني تعزيز قدرة طهران على مواصلة دعم نظام بشار الأسد، وهو تحوّل يَصْبُّ في صالح النظام السوريّ. التحوّل الدراميّ الثّاني، جاء من روسيا، بعد تدخل عسكريّ روسيّ مباشر، قالت موسكو إنه يهدف إلى محاربة داعش، فيما قالت مصادر غربية، إنه في الحقيقة يحارب خصوم بشار الأسد. وبسبب الضربات الجوية الروسية تمكّن النظام السوريّ، من استعادة ما يقرب من مئتي مدينة وقرية، خلال الثلاثة أشهر الفائتة، وهو ما يعني أيضًا أن التدخل العسكريّ الروسيّ قد عزَّز المركز التفاوضيّ للنظام السوريّ قبيل انعقاد جنيف ٣. التحوّل الدراميّ الثَّالث، جاء من الاتحاد الأوروبي، تحت وطأة تفاقم مشكلة اللاجئين السوريين، فقد أصبحت سوريا بهذا التحوّل، قضية أوروبية، تحظى بمساحة من الاهتمام في الشأن اليوميّ للأوروبيين، الذين وحدوا أنفسهم مضطرين لدعم تركيا ماديًّا وسياسيًّا، باعتبارها الأنبوب الذي يمر عبره اللاجئون السوريون إلى أوروبا.. الأوروبيون يريدون إغلاق الأنبوب التركي، والحد من تدفق اللاجئين. والأتراك يريدون استثمار الملف السوريّ لإعادة فتح ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وهو ما حدث بالفعل. التحوّلات الثلاثة الفائتة، قادت المشهد السوريّ إلى منصّات التسوية في جنيف ٣، لكنّها بذاتها لا تكفي لمجرد التحدّث عن آمال في إغلاق هذا الملف، لأنّ ما يجري في سوريا هو ببساطة (أم المعارك) التي ستقرر بعدها مصائر الإقليم كلّه بخرائطه، ودوله، وأقلياته، الطائفية، والعرقية، والدينية، والسياسية، والتي ستقرر في ضوء نتائجها حصص القوتين العظميين في الإقليم وخارجه.. باختصار فإن معركة سوريا قد تقرّر مصير العالم، ولهذا فإن ما يجري هناك على الأرض، وما سيجري في جنيف خلف الأبواب المغلقة، هو مجرد فصول في قصة، لم تنتهِ بعد. نهاية القصة في سوريا، رهن بمستويات الإنهاك لدى أطرافها (المحليين - الإقليميين - الدوليين)، وأغلبهم لم يصل بعد إلى طور الإنهاك الذي يحمله على القبول بالمتاح، أو الرضا بما لم يكن يرضى به. تراجع أسعار النفط، ترك أثرًا بالتأكيد على روسيا وإيران، وعلى قدرة كل منهما على الضغط في ساحات التنافس الإقليمي والدولي، أو في ميادين القتال، لكن قُبلة الحياة التي منحتها واشنطن لطهران، بتوقيع الاتفاق النووي معها، ورفع العقوبات عنها، وضخ المليارات في اقتصادها، هي مَن مكَّنت طهران من إطلاق قذائف بحريتها قرب حاملة الطائرات الأمريكية هاري ترومان قبل أسابيع، وهي مَن أغرت الملالي بأسر بحارة أمريكيين ضلّوا طريقهم في المياه الإقليمية الإيرانية، وهي التي دفعت واشنطن إلى التجاوب سريعًا مع مطلب إيراني قبل ساعات بسحب قطع بحرية أمريكية من بحر عُمان، لأنّ طهران تعتزم إجراء مناورات بحرية فيه!! جنيف ٣ قد لا تكون محطة النهاية للأزمة في سوريا.. فالملعب قد اتّسع، واللاعبون قد زادوا، والمباراة حصلت على وقت إضافي غير محدد. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :