في مديح الحب يكتب آلان باديو المفكر الفرنسي الحداثي مهتديا بافلاطون : “الشخص الذي لا يتخذ الحب نقطة بداية لن يعرف أبدا ما هي الفلسفة”. وهو بهذا ينقض المتعارف عن الفلاسفة وحياتهم الشخصية، فعقل الفيلسوف المنشغل يبدو أقل اهتماما بالصلة الحميمية مع الآخر. ولكن الفلسفة لم تغفل عن مفهوم الحب منذ بداياتها الأولى، فكتاب “ المأدبة” لأفلاطون استراحة على مائدة شراب ناقش فيها سقراط موضوع الرغبة والحب مع مجموعة من الشباب المثليين المرحين. كان خطاب سقراط يدور حول قضية أساسية وهي أن حب المعرفة هو الأعلى مقاما في أنواع الحب. ولن يكون التصور الذي وضعه النقاش في تلك الخلوة عن غضب الآلهة على البشر، حيث جعلتهم في حومة البحث عن نصفهم الضائع، سوى أناشيد رددتها الحضارات في مختلف عصورها. دوافع الكتابة عن الحب كثيرة، ولكن كتاباً مهماً يجعلك تبحر في سيرة الفلاسفة مع الحب، مؤلفتاه أديبتان فرنسيتان : ماري لومونييه وأود لانسون. ولعل المترجمة المصرية دينا مندور استطاعت ان تنقل ما يضمر نصهما من نزعة تهكمية رغم ما تحفل به الترجمة من صياغات لغوية ضعيفة. بيد ان اللغة لا تكفي هنا، قدر ما تمنح السيرة تفصيلات تحمل غير دلالة على اختلاف التجارب وتشابهها على مر العصور. الكتاب عنوانه ( الحب من سقراط الى سيمون دي بوفوار” الفلاسفة والحب” ). إن كان حب الغلمان هو السائد في حياة فلاسفة الأغريق، فإن عصر الأنوار الذي برز فيها التفلسف العقلاني، كان لا يخلو من نزعة إنكار للمرأة، الطرف الثاني في لعبة الحب السوي. وعدا فولتير الذي سخر من آراء جان جاك روسو حول موقفه المجحف من النساء، لن نجد ما يمكن ان نسميه نظرة مساواتية تناسب أطنان الكلمات التي نثرها الرومانسيون فوق رأسها. كان جان جاك روسو يعتبر النساء جحيم حياته، يرى الحب مثل الأخلاق ينتمي إلى حيل الضعفاء. مؤلف “ العقد الاجتماعي “ يدعو الى بقاء النساء محرومات من المشاركة السياسية. تسوية تخص الحب قبل ان تدافع عن المقامات. كانت أمه التي أذلت أباه أورثته هذه العقدة . قال لامارتين عنه : “ رجل أجوف مشغول باعماله المفاهيمية ليملي على البشرية واجبات غير قادر على تطبيقها في حياته” . كرس ايمانويل كانط فيلسوف العقل حياته للتأمل والدرس، ولم يعرف الحب قط، لا في السر ولا في العلن. عاش مع خادمه العجوز، مهووسا بالدقة وضياع الوقت. كان يهتم بالتناغم بين سترته وجواربه الطويلة المصنوعة من الحرير، وباروكته البيضاء أكثر من اهتمامه بالحب. هذا الفيلسوف الذي شغل عصره يرى في “ميتافزيقيا الأخلاق : ” ان الإنسان يهبط في الجنس لما هو أدنى من مرتبة الحيوانات” . عفيف الفلسفة وشريفها كما يصفه النص، كان يقول في “ الأنثربولوجيا” : “ المثقفات يتزودن بالكتاب كما يرتدين ساعاتهن كي نرى أنهن يملكنها بغضّ النظر إذا كانت تعمل أو إذا كانت معطّلة” . عانى الكبت بإرادته، فقد وضع خيار أفلاطون أمامه : الجنس أو العمل الفكري. فكان أغزر الفلاسفة إنتاجاً. تحت عنوان “اغتيال الحب” يبحث الكتاب في سيرة آرثر شوبنهاور المخلص للعزوبية والجيش الألماني، وهو وصف ساخر تصوغه المؤلفتان لفيلسوف التشاؤم، مقتنصات من سيرته وأقواله ما يحوله إلى العدو الأول للمرأة والحب. إنه يرى في الحب فخ الغريزة الجنسية ، ليؤسس عليه “معركته الكبرى ضد الحياة” : “ أجعل من الحب رفاهية ووسيلة لتمرير الوقت، وتعامل معه كفنان من دون أن تعجب به كثيرا إذا إن تناسل النوع صناعة لا تهدف سوى الى استمرارية الانتاج “ . أعزب كوبنهاكن سورين كيركيجارد، أعاد خاتم الخطوبة إلى المرأة الوحيدة التي عشقها، عرى مخاطر الوجود البشري مستخدما حياته كمادة للتشريح، مستعرضا دراما حياته الحميمية كمثال على تمزقه وتناقضاته. الحب لديه هو الوعد الجمالي، إلتزام أبدي يتجه إلى المطلق. قال عنه لاكان : “ إنه المتساءل الأكثر حدة حول النفس البشرية قبل فرويد “ . تتلخص حكمة المبشّر بالوجودية في “ أن يكون المرء مخلصا لفكرته “ وهي التي ألهمت فلاسفة القرن العشرين من هيدجر إلى سارتر مرورا بجاسبرز وفيتجنشتاين. واجه نيتشه المسيحية على كل الجبهات وأشرسها مفهوم العفة والشرف. مع ان اقوال نيتشه خضعت إلى سوء الفهم، غير ان مايمكن تفسير قوله عن الحرب بين الرجل والمرأة على انه القضية التي “ تدور في أعماق الوجود، في اللعبة السرية للاندفاعات التي تنعش كينونتنا ورغباتنا وافعالنا ، وكذلك أفكارنا “. التقى نيتشه فتاة روسية كانت متعلقة بفكر كانط وسبينوزا وتتمتع بذكاء حاد، فرفضت الارتباط به وبكل الرجال، ولكنها عاشرت الشاعر ريلكة ثلاث سنوات. ربما هي المرأة الوحيدة التي خضع لها الفيلسوف، ولكن جنونه يعزى إلى مرض السفلس الذي نتج عن زيارته مراكز اللذة. سيفرد الكتاب لثنائي الحب والفلسفة الاشهر فصولا مطولة : هايدجر وحنه اردنت، وسارتر وسيمون دي بوفار. في البحث عن اسرار العلاقة تتكشف حقيقة ان هايدجر كان شأنه شأن سارتر، زير نساء من الطراز الأول. وإن كان الأول قد حفظ حياته العائلية تحت يافطة الاخلاص للرباط المقدس، فالكتاب يفصح عن كون زوجته المتعصبة والنازية النزعة، قد جعلته يعترف بأبوته لطفل ولدته من رجل آخر. اما علاقة دي بوفوار مع سارتر فكل أسرارها معروفة، كتبت دي بوفوار مطولات عن مغامراتها ومغامرات سارتر العاطفية دون ان تزعزع فكرة الرباط الأبدي بينهما. ورغم كل الحكايات التي تقال عن حب أشهر ثنائيين في الفلسفة المعاصرة، غير أن ما يمكن ان ينطبق عليهما هو ما قاله باديو : الحب يأخذنا إلى مناطق رئيسية من خبرة الاختلاف . هو خبرة فردية لكلية مجتمعة.
مشاركة :