الحُبُ في أروقة الفلاسفة

  • 4/2/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

لا تقتنع الفلسفة بالوقوف عند الجزئيات بل هي نشاط عقلي يريدُ ربط الظواهر المتفرقة لتقديم رؤية كلية حول الحياة وإستخلاص أفكار وتصورات من التجارب التي يمرُ بها الإنسانُ، لذلك فإن مقاربة الفلاسفة للمعطيات الوجودية تتميز بالعمق والإبتعاد عن التبسيط والآنية، بل يؤثرون مناقشة القضايا المختلفة على ضوء المفاهيم التي يتوصلون إليها، وما هو جوهري وثابت بنظر الفلاسفة السؤال الذي بفضله يحافظ العقل على نشاطه ولا ينزلق إلى مهاوي الركود. لذا لا يستثني الفلاسفة تجاربهم الذاتية على المستوى العاطفي من مطارحاتهم الفكرية وبذلك حتى الحب الذي عرفناه بسيطاً مرحاً تُصْبحُ مسألة لا تخلو من التعقيدات في الحقل الفلسفي، إذ يتضحُ هذا الأمر أكثر في كتاب "الفلاسفة والحب . الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار" من تأليف الكاتبتين الفرنسيتين ماري لومونييه وأودلا نسولان حيث ترجمته إلى لغة الضاد دينا مندور. تكمن أهمية هذا المُؤَلَف في ربطه بين مذاهب الفلاسفة وسيرورة حياتهم على حد تعبير (آلان باديو)، يتصدرُ الكتابُ ما يشبه تمهيداً لعرض تصورات الفلاسفة إذ هناك اهتمام بسؤال الحب في عصرنا والإنفصال بين الحب الجسدي والحب العاطفي ما أسفر عن مكننة الحب وتشوه العاطفة على حد تعبير أدورنو. ومن ثم ذكرت المؤلفتان آراء فلاسفة الآخرين حول العلاقة القائمة بين اللذة الحسية والحب ربما أجمل ما ورد في هذا السياق هو تفسير الفيلسوف الألماني نيتشه، فالأخير يعتقدُ بإن الإشباع الجنسي بالنسبة للعاشقين لا يُعدُ شيأً إنما مجرد رمز وليس أكثر. هنا موضوع الحب يتم تناوله على المستوى الأشمل، ولا يكون قيد التصورات الناتجة عن ردات فعل سريعة وتجارب عاطفية عارضة، صحيح فإن آراء الفلاسفة التي يضمها الكتاب هي وليدة لتجاربهم لكن ما يميزُ رؤية هؤلاء هو التحفز لتضفير الحب مع موضوعات أخرى مثل مصير الإنسان ودور الحب في الآلام التي يعانيها الكائن الإنساني، هل يصحُ تجاهل نداءات الحب خوفاً مما تنطوي عليه التجربة العاطفية من العذاب. وإذا نظرنا إلى الأمور من هذا المنطلق فهل يوجد فرق ذكر بيننا وبين الأحجار والأموات التي تحظى بالراحة والسكون على حد قول مونيك ديسكو. يكشف لك هذا الكتابُ عن اتجاهين أحدهما يزهدُ أصحابهُ عن تذوق الحب لاسيما الحسي أو ينسف الجسر الموصول إلى تتويج التجربة بالعلاقة الدائمة مثل كيكجارد فهو فضل فكره الذي بمثابة روحته وحياته على حبيبته ريجيبن. يتداخل لدى الفيلسوف الدانماركي الحبُ مع قضايا عقائدية ويتأثر في قراراته بهذا الشأن بما ورد في نصوص دينية عن تضحية النبي إبراهيم بإبنه، كما أن كانط هو أيضاً سجل حياته يكاد يكونُ خالياً من العلاقات العاطفية بحيث جديرُ أن يوصف بالفيلسوف الناسك إذ تعتبر الحياة الجنسية لصاحب نقد العقل الخالص من أخطر المسائل الميتافيزيقية في الغرب. ويعللُ كانط بقاءه عازباً بأنه حين احتاج إلى المرأة لم يمتلك ما يطعمها وحين إمتلك المال لم يعد يشعر بالحاجة إلى المرأة. بخلاف هذا الإتجاه ثمة من كانت المرأة حاضرةً بقوة في حياته حيث تعددت تجاربه وأقام شبكة من علاقات عاطفية خارج مؤسسة الزواج إذ يُمثلُ مارتن هاديغر نموذج الفيلسوف التائق لإرتياد قلب العالم النابض عبر الحب، على حد تعبير عشيقته حنة أرندت. بين هذا وذاك يوجدُ من ظلَّ موقفه ملتبساً حيال المرأة والحب، لعل الفيلسوف المُتشائم آرثر شوبنهاور يكونُ أبرز مثال بسلوكياته المتناقضة عن عدم الوضوح والضبابية في علاقته بالمرأة فهو من جهة يحملُ الأنثى مسؤولية إستمرارية حياة خالية من المعنى ويعتبرُ الحب ليس إلا فخاً ومن جهة أُخرى لم يزهدْ من إقامة علاقات حميمية مع أكثر من إمرأة. بجانب ذكر أطروحة نخبة من الفلاسفة المُحدثين عن الحب يلتفت هذا الكتابُ إلى ما دار حول الموضوع نفسه لدى فلاسفة الإغريق من النقاشات، هنا يُشير إلى رأي أرستوفان؛ فبنظر الأخير كان الذكر والأُنثى متحدين في كيان واحد وبما أن ذلك يشكل مصدر خطر على الآلهة لذا عاقب زيوس الجنسين بالإنفصال، فبالتالي يولدُ إيروس من الشعور بالحاجة إلى النصف الآخر. ويُعدُ إيروس إلها عظيماً لم يسبقه إلا العدم حسبما ورد ذكره في الميثولوجيا اليونانية، الأكثر من ذلك تحدثت مؤلفتا (الفلاسفة والحب) عن اقتران الجمال بالحب عند إفلاطون وإزدراء صاحب الجمهورية للحب الجسدي واصفاً إياه بأنه المرحلة الأولى في رحلة الإنسان نحو عالمه الروحاني. وفي هذا الإطار يتم ذكر علاقة سقراط بزوجته كسانتيب التي ألقت بدلو الماء على زوجها ولم يسعَ سقراط إلا أن يقولَ "كم من مطر خفيف على رياح عاتية" يعتقدُ الفيلسوف الألماني نيتشه بأن سقراط ما كان سيصبح أكبر مُجادل في أثينا لولا مناكدات زوجته. تختارُ صاحبتا الكتاب في لوكريس لدى الرومان قبل الإنتقال إلى العصر الوسيط وإفراد فصل كامل لرؤية مونتاني عن الحب، يرى الشاعر الروماني لوكريس 55 ق. م بأنَّ الحب لا ينفصلُ عن عذابات أبدية إذ تجسدُ أسطورة تتالوس مثالاً واضحاً عن المعاناة الناجمة من الحب مُضيفاً إلى أن "تجنب شرك الحب أهون من الوقوع فيه". كما يقدم حلاً لتخفيف من حدة آلام الحب بـ "محو الجراح القديمة بندوب جديدة" والبحث عن الحب الجديد لنسيان متعة قديمة. ولا يختلفُ تصور الشاعر الإيطالي تيشزاري بافيزي عن رأي لوكريس حيث يعتقد الأول بأن الحب سبب للإنتحار، كون الحب يكشفُ عري الإنسان وبؤسه ويظهره أعزل وسط العدم، وهذا ما حدا به فعلاً لأن ينتحرَ ويصبح أحد ضحايا الحب. إذا انصرفنا إلى مونتاني المبدع في كتابة فن المقالة والدبلوماسي المحنك نلاحظ بأنه أكثر إهتماما بالإيروتيكية إذ نشأ مونتاني محروماً من حنان الأم مما جعله ان لا يكون مستقراً في علاقاته العاطفية، فهو بدلاً من أن يتباهى بالفروسية والخيل كمعظم أبناء عصره فضل أن يكون منكباً على تفاصيل العلاقات الحميمية. يتسلسل الحديث عن الفلاسفة إلى أن تتوقف عند جان جاك رسو الذي يقول في كتابه "إميل" بأن ممارسة العلاقات الحسية دون وجود الحب ليست إلا نوعاً من العبودية، واعترف في الوقت نفسه بإن الحب لا يكون دون العذاب والآلام. وفي الفصل المخصص لروسو يتم التطرق إلى رأي لاروشفكو الذي يفسرُ تفسيراً إجتماعياً لظاهرة الحب مشيراً إلى أن هناك أناساً ما أصبحوا عشاقاً أبدا، ولولا أن سمعوا من يتكلم عن العشق. هكذا يتجول بك الكتاب في ثنايا أفكار الفلاسفة إلى أن يختم بقصة العلاقة الإستثنائية بين سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر، فالأخير يعتقدُ بأن الحب هو أن تمتلك العالم من خلال امرأةً. يُذكر حاله كحال هاديجر كانت له علاقات نسائية متعددة تأتي يتفردُ هذا الكتاب في عرضه لوجه آخر للفلاسفة بحيث يصحح لك بعض تصورات نمطية عن فيلسوف مثل نيتشه الذي لم يكن معادياً للمرأة، بقد ما أراد امرأة تكون ندا له في صرامة الفكر وتقديس الحياة. كذلك بالنسبة لكيكجارد الذي عاش حياة متصوفة باحثاً عن لذة أبدية لإن الحب الحسي كما قال مثل الموسيقى التي ليس لها أثر إلا في حالة العزف. يحق أن نتسائل بعد معرفة كل هذه المواقف المتضاربة هل يصح أن نمشي في درب الفلاسفة في البحث عن الحب أو نكتفي بالترديد مع أندريه بريتون بأن الحب هو الحل الوحيد أو نتبنى ماقاله نزار قباني بأنه "لا غالب إلا الحب"؟

مشاركة :