مع اقتراب موعد الاستحقاق الذي اختاره رئيس المجلس النيابي نبيه بري (8 شباط / فبراير) لانتخاب رئيس جمهورية لبنان، يتبيّن للمراقبين أن «الطبخة» المطلوبة لم تنضج بعد. هذا مع العلم أن عدداً كبيراً من القيادات الروحية والسياسية قد أعرب عن رغبته في حلحلة هذه الأزمة المعقدة. خصوصاً أنها تجاوزت الحد الأقصى من الانتظار والصبر، وبلغت من مراحل التأجيل كل خط أحمر يمكن تصوره. لذلك سارع البطريرك الماروني بشارة الراعي الى الاجتماع بالبابا فرنسيس في الفاتيكان، على أمل إثارة موضوع الرئاسة في لبنان مع الرئيس حسن روحاني. وهذا ما فعله من جهة أخرى سفير فرنسا لدى لبنان، إيمانويل بون، الذي توجه الى باريس الأسبوع الماضي حاملاً معه ملفاً خاصاً بأزمة الرئاسة. وكان من الطبيعي أن يثير الرئيس فرنسوا هولاند هذا الموضوع مع ضيفه الإيراني حسن روحاني. ومع أن شيئاً لم يرشح عن خلاصة هذه المحاولة، إلا أن طهران مطمئنة الى موقف «حزب الله» حيال مشكلة تعتبرها شأناً لبنانياً داخلياً، بعكس البطريرك الماروني الذي يعتبر أن مستقبل رئاسة الجمهورية في لبنان هو شأن إقليمي يخص كل دول المشرق العربي. ودليله على ذلك أن أجراس الكنائس في لبنان بقيت وحدها تُقرَع برضا المسلمين، بينما سكتت الأجراس في كل البلدان العربية بما فيها العراق ومصر وليبيا. من هنا تضمن التقرير الذي قدمه البطريرك الماروني الى البابا نصاً يطالب فيه بضرورة إهتمام الفاتيكان بمسيحيي المشرق عبر البوابة اللبنانية. وكما ترتفع حدة أزمة الرئاسة اللبنانية قبل موعد الانتخابات المقرر في 8 شباط كذلك شهدت الساحة اللبنانية مشادات كلامية في شهر حزيران (يونيو) من السنة الماضية. يومها فتح باب النقاش الحاد رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط بالقول: «إن لبنان لن ينتخب رئيساً في الظرف الحالي بسبب غياب الوسيط». ثم أكمل: «عندما انتخبنا ميشال سليمان كان هناك وسيط اسمه الدوحة. لذلك نصيحتي للفرقاء المسيحيين بأن يقتنعوا بوجود مرشح توافقي خارج ميشال عون وسمير جعجع وأمين الجميل. ربما سليمان فرنجية مقتنع بذلك، ولكنه لا يريد أن يختلف مع ميشال عون». وفي ختام حديثه أشار جنبلاط الى أهمية انتخاب رئيس مسيحي، قائلاً: «إن للرئيس المسيحي اللبناني رمزية خاصة وسط هذا الشرق العربي - الاسلامي. خصوصاً بعد الكوارث التي حلت بالعراق وسورية. وأعود الى الماضي لأذكّر المسيحيين بحكمة كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده. يومها أدركوا أن حظوظهم معدومة، لذلك انتخبوا سليمان فرنجية». وفجأة، دخل على خط النقاش الحاد نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم ليرفع حرارة الجو السياسي بالقول: «إن الوضع واضح بالنسبة الى خيار الرئاسة، فإما أن تنتخبوا الجنرال ميشال عون وإما أن يؤجل أمر الرئاسة الى أجل غير مسمى، والله أعلم كم يطول هذا الموضوع!». وكان من الطبيعي في حينه أن يُحدِث ذلك التصريح الحاسم ردود فعل غاضبة لدى فريق 14 آذار، الأمر الذي اضطر الرئيس نبيه بري للتدخل بهدف إعلان التهدئة قبل اللقاء المسيحي في بكركي. بعد ذلك التصريح الواضح، أعلن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله موقفاً سياسياً ثابتاً أكد فيه أن ميشال عون هو مرشح الحزب، الأول والأخير لمنصب الرئاسة في لبنان. وقد رفع ذلك الموقف الصريح الغطاء عن حظوظ العماد جان قهوجي، الذي رشحته صحف عدة لموقع الرئاسة بعد الحصانة الأمنية التي وفرها الجيش للسفارة الايرانية ولسكان الضاحية الجنوبية. يقول المراقبون للشأن اللبناني إن اتفاق سعد الحريري مع سليمان فرنجية كان السبب المباشر الذي شجع الدكتور سمير جعجع على مصالحة غريمه السياسي العماد ميشال عون. والكل في لبنان يذكر كيف شنّ العماد عون ضد «القوات اللبنانية» «حرب الإلغاء» على مختلف الجبهات في 31 كانون الثاني (يناير) 1990. واستمرت الى حين قام الجيش السوري في 13 تشرين الأول (اكتوبر) باختراق مواقع عون العسكرية، وإخراجه من قصر بعبدا ومبنى وزارة الدفاع. ولكن حاجة جعجع الى مساندة عون في هذه المرحلة بالذات أنسَته الجرح العميق الذي حفرته في ذاكرته «حرب الإلغاء». لذلك استغل توقَ عون وتشوّقه المزمن للعودة الى قصر بعبدا كي ينسج خطة وقائية تُعرَف بعالم السياسة بـ «خطة بمرنغ». و «بمرنغ» هي قطعة خشبية مسنَّنة وملتوية كان سكان استراليا الأصليون يستخدمونها للصيد. وإذا لم تُصِب الهدف، تنحرف القطعة وترجع الى قاذِفها. أما المعنى الرمزي لهذه الخطة فنابعٌ من قناعة جعجع بأنه في حال لم يربح عون معركة الرئاسة، فإن حظه في خلافته بالرئاسة سيتضاعف. وهكذا يكون قد ضمِن ما أخذه منه سليمان فرنجية. أما في حال تحقق رهانه على عون، فإن مكاسبه من هذه الصفقة ستقوي نفوذه السياسي مع فريق 8 آذار، وتؤمن لجماعته في الحكومة وإدارات الدولة مناصب رفيعة. بعض الصحف الخليجية رأى في استدارة جعجع باتجاه عون نوعاً من التشكيك والإرتياب بأن السعودية هي التي شجعت سعد الحريري على طرح مبادرته. وبما أنه كان يتخيل نفسه المرشح المفضل لدى الرياض، لذلك ذهب بالاتجاه المعاكس بهدف قطع الطريق على رئيس «تيار المَرَدَة». ذلك أنه يعتبر وصول فرنجية الى قصر بعبدا تطوراً سياسياً يمكن أن يهدد قاعدة نفوذه الانتخابي في بشرّي ومحيطها. السؤال المحيّر الذي رافق هذه العملية المفاجئة يتعلق بالشروط التي عرضها رئيس حزب «القوات اللبنانية» أثناء لقاء «معراب». ويُستدَل من مراجعة بنود ما وصفه جعجع بـ «ورقة الانقاذ»، أن البند الوحيد الذي يقبل به «حزب الله» هو «اعتبار اسرائيل دولة عدوة». أما سائر البنود التي وافق عليها عون، قبل إعلانها في المؤتمر المشترك، فهي مناقضِة لطروحات «حزب الله» وشعاراته السياسية. ومن أبرز نقاطه الرئيسية: 1- الإيمان بلبنان وطناً سيداً حراً مستقلاً، وفق المبادئ الواردة في الدستور. 2- الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني التي أقرَّت في الطائف. 3- اعتماد مبادئ السيادة في المواضيع الإقليمية والدولية. 4- دعم الجيش، وتمكينه من بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية. 5- عدم اللجوء الى السلاح والعنف. 6- التزام سياسة خارجية مستقلة بما يضمن مصلحة لبنان ويحترم القانون الدولي. 7- احترام قرارات الشرعية الدولية والالتزام بمواثيق الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. تؤكد مصادر حزبية أن قيادتي الرابية ومعراب كانتا قد أطلعتا «حزب الله» على وقائع التعاون المرتقب من دون الدخول في التفاصيل. ومع شدّة تحفظ الحزب على شراكة جعجع، فقد ترك لحليفه عون حرية التصرف لئلا يتهمه بتعطيل فرص وصوله الى الرئاسة. وفي الوقت ذاته، وضعت «القوات اللبنانية» حليفاتها، في «الكتائب» والأمانة العامة لـ 14 آذار، في أجواء الفرصة المتاحة بين خصمَيْن كانا حتى الأمس القريب يتنافسان على زعامة القوى المسيحية المبعثرة. والكل في لبنان يتذكر ضراوة الحملة الاعلامية التي قام بها جعجع في منتصف عام 2014 من أجل تسويق نهجه استعداداً لخوض معركة الرئاسة. وعلى سبيل التذكير نجتزئ، من تصريح طويل لأحد الزملاء، اليسير من «تواضع» جعجع الذي قال: سيكون للبنان رئيس توافقي بالمعنى الفعلي، لأنه سيوفّق بين اللبنانيين بمنطق الدستور والقانون. وعندما سأله الزميل عن برنامجه، أجاب بتواضع جم: ستكون للبنان دولة فعلية في حال وصلت الى قصر بعبدا. على كل حال، ان حياتي اليومية خالية من المزاح وممتلئة بالأعمال الجدية. وعلى سبيل المثال، لنفترض أني رئيس للجمهورية، وحصلت عملية خطف في البلاد. عندها أوقف الجمهورية اللبنانية بأكملها لملاحقة الخاطفين. ووفق رأيي، حين يتوقف المسؤولون في الدولة عند أكبر وأصغر الأحداث، بعدها لن يتجرأ أحد على الإخلال بالأمن، وقس على هذا المثال كيف سيكون أدائي السياسي! ومثل هذا البرنامج الذي نُقِل الى حليفه ميشال عون، كان جاهزاً للتطبيق قبل أن يخطف «داعش» دولتين من الدول العربية، من دون أن تتمكن الأسرة الدولية من استرجاعهما بعد. بقي أن ننتقل الى جوهر الموضوع، ونسأل ما إذا كانت «القنبلة» التي فجرها سمير جعجع ستعود عليه وعلى عون بالربح الوفير؟ اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان بعد 15 سنة، ينصّ على أنه لن تكون هناك غالبية سياسية لطائفة دينية. وبناء على هذا المبدأ، فإن البنية السياسية في الدولة ملزَمة بإنشاء ائتلافات أو اجتذاب أقطاب يمثلون مختلف أقطاب المسلمين والمسيحيين. وفي هذه الناحية بالذات تلعب العلاقات الشخصية بين القادة دوراً رئيسياً. كما يلعب الولاء للدول المؤثرة، مثل السعودية وايران وسورية، دوراً كبيراً أيضاً. وبما أن أصوات النواب المحسوبة لميشال عون ومنافسه سليمان فرنجية لا تصل الى الرقم المطلوب (85)، فإن البحث حالياً يجري لاستمالة نواب بري وجنبلاط والكتائب والأرمن، إضافة الى المستقلين ونائبي الحزب السوري القومي الاجتماعي أسعد حردان ومروان فارس. الرئيس بري كشف أوراقه منذ أكثر من سنة وأعلن أنه يؤيد جان عبيد. ولكنه هذا الأسبوع حسم تموضعه وصرح بأنه وأعضاء كتلته (13 نائباً) يؤيدون رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية. ويرى نواب كتلته أن هذا التصريح ملزِم، وأن تدخل «حزب الله» معه لن يبدل في قناعاته. خصوصاً أن «حزب الله» يحتاج الى زعيم حركة «أمل» كواجهة سياسية خارجية، وكحليف محلي يصعب إغضابه. رئيس «اللقاء الديموقراطي» و «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط أعاد الى الأذهان مواقف المرحوم الحاج حسين العويني الذي حافظ على شعرة معاوية مع الجميع. ففي حضور نجله ووريثه في الزعامة تيمور، قال جنبلاط إنه سيبقي اجتماعاته متواصلة لمواكبة النقاش السياسي الحاصل في البلد. كما سيبقي اتصالاته مستمرة مع كل الكتل النيابية للخروج من المأزق الراهن. وأكد استمرار ترشيح النائب هنري حلو كونه يمثل «خط الاعتدال ونهج الحوار». ولكنه في الوقت ذاته ثمَّن خطوة ترشيح النائب سليمان فرنجية باعتبارها تشكل مخرجاً من الأزمة. كما ثمَّن ترشيح العماد ميشال عون لأنه يجسّد المواصفات التي اتفِقَ عليها في «هيئة الحوار الوطني». ومع أن جنبلاط يحب الاقتداء بصديقه بري، إلا أنه، كعادته في الحالات السابقة، لا يكشف أوراقه قبل حلول الاستحقاق الأخير. ويبدو أن رئيس «الكتائب» سامي الجميل سيعزز موقفه الغامض من طريق الاقتداء بنظرية «الغموض البنّاء»... * كاتب وصحافي لبناني
مشاركة :