كنت يوم الجمعة أقرأ في سورة الكهف قول الله عز وجل على لسان الفتية الذين فروا بدينهم إلى الكهف (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) فتوقفت وسألت نفسي: لماذا قالوا (آتنا) ولم يقولوا أعطنا أو هب لنا؟! هل الرحمة تؤتى كالملك والسلطان والجاه؟ أم أنها تعطى وتوهب كالصحة في الجسم، والسعة في الرزق! ثم لماذا قالوا (من لدنك) ولم يقولوا من عندك؟ وما دلالة ارتباط تهيئة الرشد بعد حصول الرحمة!وقبل أن نرجع لأقوال العلماء والمفسرين في أمهات الكتب ومعاجم اللغة لنحصل على الإجابات الواضحة دعونا نتعرف على معاني الرحمة ومدلولاتها اللفظية، ويخطر في ذهني أن الرحمة في مفهومها العام تعني العفو، والعفو لا يملكه إلا صاحب حق متفضل به على من أخطأ عليه، ويرتبط العفو بالمغفرة ارتباطا تاما، إلا أن هذا الارتباط التام أو حتى الارتباط النسبي عادة لا يتحقق في السلوك البشري، بمعنى أننا قد نعفو لكننا لا نغفر أو ربما نغفر دون أن نعفو، أو أننا نعفو ونغفر ولكن بنسب متفاوتة، ولذلك كانت الرحمة حالة متفردة في مدلولها اللفظي ومعناها الحسي، لا مجرد صورة نمطية أو انعكاس حتمي للعفو والغفران.ومن معاني الرحمة الظاهرة العطف والرأفة، وقد تبدو الرحمة في هذا المعنى متجردة عن العفو والمغفرة، ولكنها في الواقع ليست كذلك، فعندما نرى فقيرا أو محتاجا لا نعرفه ولا تربطنا به علاقة ونجد أنفسنا تتعاطف مع وضعه وترأف بحالته فنحن في حقيقة الأمر لا نملك حقا في العفو عنه أو أن نغفر له عن زلة أو خطيئة وقع فيها، ولكننا نعفو بما نبذله له من أموالنا أو مشاعرنا، فلا يقع في أنفسنا منها شيء، ونتذكر فضل الرحمن علينا ورحمته ومنّه وكرمه فنشكره ونثني عليه ونرجو منه مزيدا من فضله ورحمته. والرحمة المطلقة صفة وخاصية إلهية لا يملكها إلا الله عز وجل، خص بها نفسه وتسمى بها، فهو الرحمن الرحيم، وفي صحيح الجامع عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا وقال (اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت) ولا يعلم أن أحدا تسمى بالرحمن أو وصف به إلا الله تبارك وتعالى، فهو الله الرحمن الرحيم، وبهذه الأسماء والصفات العظيمة الفريدة نقول في كل أمورنا (بسم الله الرحمن الرحيم) تعظيما له وطلبا لرحمته وتهيئة للرشاد في كل قراراتنا وأمور حياتنا. إذن رحمة الله تؤتى وتوهب وفقا للحالة القائمة وانسجاما لطبيعة ونية طالبها، فأصحاب الكهف عندما خروجوا كانوا فتية لا ناصر لهم، وكان خروجهم خوفا وهربا من قومهم وفرارا بدينهم، فكانوا يبحثون عن ملاذ يلجؤون إليه أو مأوى يأويهم أو سلطان يحميهم، لذلك قالوا (ربنا آتنا) ولو أنهم افتتنوا بما فتن به قومهم أو وقعوا في ذنب أو معصية لطلبوا الرحمة هبة من الله، ولجاء الوصف القرآني مناسبا لحالتهم، فالله تعالى يقول في سورة آل عمران (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)، فالزيغ قبل أو بعد الهداية إذا ما وقع يقتضي الاحتواء، واحتواء الإله رحمة واسعة وشعور نطمئن إليه وواقع ملموس نجد أثره. أما قوله تعالى (من لدنك) ففيه بلاغة لفظية وتأكيد على حضور الرحمة حضورا كاملا وتاما لدى المولى جل في علاه، فلفظة (لدى) عند النحاة وأهل اللغة تعني القرب والحضور والحيازة التامة، ورحمة الله كذلك، فهي رحمة كاملة تامة مطلقة وسعت كل شيء (ورحمتي وسعت كل شيء)، وهذا الإطلاق في امتلاك الرحمة وسعتها لكل صغيرة وكبيرة لا يليق إلا بالله تبارك وتعالى، وفي هذا الملمح اللغوي يبرز جمال اللغة العربية وتفوقها وأفضليتها على سائر اللغات مهما قيل عنها وسيقال.وقبيل غروب الشمس رأيت أمي -حفظها الله- ترفع يدها للسماء تدعو وتتحرى ساعة الإجابة، فدنوت منها لعلي أحظى برضاها ودعوة مستجابة لا ترد، فسمعتها تدعو وتقول: يا رحمن يا رحيم احفظ أبنائي وأرشدهم للصواب ويسر أمورهم يا أرحم الراحمين، فربطت ما سمعت منها بما قرأته من القرآن، والواقع أننا كلنا محتاجون لمن رحمته وسعت كل شيء، رحمني الله وإياكم ووالدي ووالديكم والمسلمين جميعا الأحياء منهم والأموات.[email protected]
مشاركة :