نحـو تسطير حالة ثقافية متفردة وتحقيق قفزات ثقافية تصبو إلى التميز والريـادة والتفرد، تســعى المملكــة بخطــى وطنيــة واثقة لتشكيل أجواء إبداعية خلاقة نحو التحول لمنعطفات تتمايز فيها طرق التفكير، وتدشين الممارسات الإبداعية النشطة، والمعارض والفاعليات والبيناليات، والملتقيات التنويرية ذات الإضافة النوعية في مجال الثقافة والفنون والتراث، بما يدعم الهوية والمساهمة في عملية التلاقي والتبادل الثقافي الإنساني، وصياغة محيط إبداعي لأفراد المجتمع. دور المملكة في الحفاظ على التراث الإسلامي تحت القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين الملك "سلمان بن عبدالعزيز" وولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير "محمد بن سلمان"، وفي خطى مسيرتها الإبداعية وخططها الاستراتيجية والتنموية، اتجهت وزارة الثقافة لطرح قيم مضافة للساحة الثقافية، وتصدير المملكة كمركز لتذوق التراث والفنون، وتأصيل منظومة تثقيفية فاعلة، لتهيئة المناخ الإبداعي ونسج حالة من إعلاء لقيمة الثقافة والفنون، وشحذ الروح والمشاعر، لتخطو الحركة الثقافية خطى متواثبة في تحولاتها، وتصبح الثقافة ركينة أساسية لتطلعات المملكة. ويمثل التراث السعودي القديم وعناصره أحد البنوك المعرفية الإثرائية التي لا تنضب، وكذا العناصر الدينية بروحانياتها ومشاعرها وهويتها. وتحت عنوان (أول بيت) دشنت المملكة العربية السعودية النسخة الافتتاحية من بينالي الفنون الإسلامية كحدث فني سنوي عالمي لتعزيز المكانة الوظيفية والروحية للموقع وتدشينه كوجهة للاحتفاء بالفنون والإرث الإسلامي وشحذ المناخ والبيئة الفنية في جدة وإعلاء قيم تذوق الفنون. فبتصميمها العريق المتفرد الذي يحتفي بتحفة معمارية تستقبل ملايين الحجيج تستضيف "صالة الحجاج الغربية" بمطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة خلال الفترة من 23 يناير إلى 23 أبريل 2023 ذلك الحراك الفني، ليصبح البينالي منصة لدعم الفن الإسلامي والحفاظ على الحرف والمهارات التقليدية وإبراز التراث الإسلامي ذلك الإرث الذي ينتقل من علوم وآداب وفنون ونحوها. ليدشن بينالي الفنون الإسلامية وفي تلك النسخة الافتتاحية دروبا للتوثيق بين الفن والمشاعر والهوية، وتحمل طابعا خاصا يميزها عن غيرها من البيناليات المحلية والعالمية، في عرض محتوى الفنون والثقافة الإسلامية والمقتنيات المنتقاة من العصور الإسلامية عبر قطع أثرية من ناحية ومنجز بصري وإبداع معاصر ذي فكرية وفنية تستمد إلهامها وجذورها من "أول بيت" من ناحية أخرى. ومن أهم ما يتمايز به البينالي ذلك الطابع العام الذي يخلو من النخبوية وتوجيه الرسالة للكل -العرب والأجانب- ومختلف الأعمار السنية بلغة بصرية موحدة دون تخصيص، عبر قطع فنية جمعت بعناية ودراية لتعرض في قاعات تتناول ثيمات مختلفة مثل: (أول بيت، الهجرة، القبلة، المدار) مع جناحين لمكة المكرمة والمدينة المنورة، بهدف الربط بين الدول العربية الإسلامية والمملكة العربية السعودية لإعلاء دور المملكة في الحفاظ على التراث الفني الإسلامي الثري. لتعرض النسخة الأولى مقتنيات أثرية من المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومخطوطات قرآنية، ونوادر التحف الإسلامية، ليتعايش ويتفاعل الزائر عبر رحلة ثرية مع مقتنيات جناح مكة وجناح المدينة، وأطروحات القاعات (3،2،1) والتي تشتمل كل قاعة على حوادث وشواهد أثرية فنية من الحضارة والإرث الاسلامي في وحدة متكاملة تربط الماضي بالحاضر وتعلي المشاعر والهوية. وزارة الثقافة وإعلاء قيم التراث الإسلامي "أول بيت" وعلى غير المعتاد من معارض الفنون المعاصرة ومن دورها الريادي الفاعل نحو إعلاء دور المملكة الثقافي والتنوبري والحفاظ على قيم التراث الإسلامي كإرث ثري، دشنت "وزارة الثقافة" بالتعاون مع "مؤسسة بينالي الدرعية" أول بينالي للفنون الإسلامية في التاريخ ففي "أول بيت" عنوان تلك النسخة، وعلى مساحة 18 ألف متر مربع والتي قسمت على خمس جاليريهات كبرى أسس لعرض أكثر من 280 قطعة أثرية معارة من مؤسسات محلية وعالمية، ومشاركة ما يقارب من "13" دولة وأعمال 40 فنانا في إطار تجربة تطرح للمتلقي التعريف التفسيري والتحليلي للفن الإسلامي خلال حقبات متنوعة. ويشتمل البينالي على منطقتين رئيستين لعرض الأعمال والقطع الأثرية، لتتضمن المساحة الأولى معارض متواصلة، وتشتمل المساحة الثانية على (جناحين مخصصين لمكة المكرمة والمدينة المنورة - منطقة خارجية تحت مظلات صالة الحجاج لعرض الأعمال الفنية المركبة) وعبر طريقة عرض حداثية تواكب عملقة الافتتاح بطلها (المفاجأة والإثارة الفنية والحداثية للمتلقي) والمفاجأة في طريقة العرض، وترتيب المعروضات، والمزاوجة بين الماضي والحاضر، واستعراض حلقات الصلة بين تاريخ الفنون الإسلامية قديما، وخطاباته البصرية الحداثية التي تنطلق من فكرة ومسمى كحافزية للاستلهام وعرض المنجزات البصرية. فقد انحازت "وزارة الثقافة" لتقديم الإرث التراثي القديم والأطروحات الإسلامية المعاصرة. ما بين التاريخ والفن "بينالي الفنون الإسلامية " يدمج الماضي بالحاضر يتمحور "أول بيت" كبينالي حول ثيمات ومنها القِبلة: وهي الكعبة المشرفة، حيث دشن جناح "القبلة" ليؤسس على إثارة الأحاسيس المشاعر أكثر من الحقائق، لذا فقد ضم معروضات كرحلة نحو هذا الاستقطاب الروحي عبر مجموعة من صالات العرض المتتالية لتسمح بمنهجية التأمل في معاني عباداتنا عبر رسائل تلك المقتنيات الأثرية والأطروحات الفنية المعاصرة. واكتست قاعة العرض الأولى "القبلة" بإضاءة خافتة تتسق مع منجز بصري لعرض فيديو للمسجد المكي، مصحوبا بعنصر "الصوت" لميكروفونات لترددات الأذان من بقاع عدة على الأرض. الهجرة: وتقام في هذا الجزء من البينالي في رحاب صالة الحجاج، أعمال فنية بتكليف من مؤسسة بينالي الدرعية تجسد موضوع الهجرة من زوايا عديدة، وإسهامات مواسم الحج في جلبه للعالم الإسلامي، في جناحين يعرضان قطعاً أثرية نادرة من (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، مع تعضيد دور المملكة العربية السعودية كراعية لأكثر المواقع الإسلامية قدسية. المدار.. الأطروحات المعاصرة وهوية الذاكرة التراثية كمهد للإسلام وبصفتها الراعية للحرمين الشريفين والمواقع الدينية والتاريخية تتمتع المملكة العربية السعودية بمكانة فريدة باعتبارها البيت الجامع للمسلمين بمختلف جغرافياتهم، لذا جاءت أطروحات "المدار" الفنية كمعرض تزامني مع البينالي، حيث تم توجيه الدعوة لعدد من الفنانين والمؤسسات من المملكة وخارجها، كمرجع وصالون للحوارية الفكرية لتعضيد المشاعر والروحانية والهوية الإسلامية عبر معانٍ ورمزيات مدلولية تعززها التقنيات والوسائط المستحدثة التي تفند الخطاب البصري من لون، وبارز وغائر نقشي، وضوء، وحركة، وصوت. وفي تجربة حداثية متفردة تعكس الفهم والدراية والوعي والتمايز، تم عرض لوحات وتجهيزات فراغية تركيبية في المنطقة الخارجية تحت مظلات صالة الحجاج، لتنحو عن فكرة العروض داخل القاعات المغلقة في تفاعلية روحانية مع الإسقاطات الضوئية لأشعة الشمس التي تتخلل المظلات الخارجية وكأنها كيانات شاحذة تنثر رسائلها المفاهيمية عبر الفراغات المفتوحة والأفق والقبة السماوية وحوارية تعلي من صدى التجهيزات الفراغية مع البيئات المفتوحة. روحانية المعاني والمشاعر والذاكرة عبر أيقونية الموقع أطروحات تستمد مفهومها من الشعائر والروحانيات في محاولة لتعضيد أحاسيس متسامية ومعاني نابضة داخل قاعات عرض مجهزة بإضاءات احترافية تسلط على الأعمال الفنية والتحف بما يعلي من قيمها الجمالية والفنية ويقلل حدوث التشتت البصري وتشكيل المسارات البصرية الفاعلة عبر الكتل والحجوم، ليجد المتلقي نفسه في رحلة ما بين القاعات الشبه مظلمة والخافتة والبيضاء ساطعة الضوء لتتسم الرحلة بالثراء والغني والمشاعر السامية. وقطع أثرية متنوعة من بقاع عدة مع تزويد المساحة بنظارات (VR) التي تتيح رؤية مواقع تعزيز افتراضي لرؤية المساجد والأماكن التراثية والدينية في المملكة، وفي عرض متمايز يظهر عمود حجري بنسب محكمة وتوزيع زخرف نقشي وفق مديولات رياضية رصينة، وهو واحد من الثلاثة أعمدة التي حملت سقف الحرم من عهد الصحابي "عبد الله بن الزبير"، والذي تم استبداله عام 1416هـ، ونموذج فني محاكي لداخل الكعبة المشرفة في تجربة تعلي من الخواص والحواس الروحانية الشعائرية والتثقيفية لدى جمهور البينالي، مع توظيف الصوتيات، ونبض القلب، وتوظيف الضوء الحالم الأزرق ليضمن التعايش والتفاعل وجذب المتلقي نحو الأجواء الروحانية والخشوع الديني. وقطعة فريدة حريرية من القماش صنع في القرن العاشر الهجري كان يغطي به قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، زخرف بكتابات ونقوش هندسية بالأخضر والذهبي، هذا إلى جانب عرض لمصحف من مقتنيات المتحف الوطني بالرياض يعود لنهاية القرن الثامن يعرض منه 32 صفحة مكتوبة على الجلد بماء الذهب، ومن المعروضات المهمة محراب أصفهاني الذي يرجع إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، والمصاغ من بلاطات صغيرة كتقنية تم تطويرها في بلاد فارس وآسيا الوسطى، وأباريق من الماء صنعت من الجلد والمعادن بأبعاد متباينة. وفي عمله (سبع مرات) استند الفنان إلى عدد من المجسمات على شكل الكعبة في مصفوفات أفقية ورأسية، منتظمة متجاورة باللون الأسود، في صفوف تشبه انتظام المسلمين في صلواتهم، دشن عليها كتابات وأذكار وأدعية يرددها المسلم دائما عند صلواته مع طلسم الكتابات وصياغتها فوق بعضها لضمان عدم وضوحها لتعميق التفاعل والتأكيد على التكرار السردي لتلك الكتابات في اليوم الواحد. وعمل تركيبي لشواهد قبور حقيقية من مقبرة المعلاة في مكة المكرمة، داخل القاعة، يلامس بها الفنان روح ومشاعر المتلقي، عبر فلسفة تنطلق من تدشين تلك الشواهد مع سماعات صوتية تسرد قصة صاحب الشاهد وحياته، وقصدية الإضاءة على أجزاء محددة في الشواهد لتعميق المفهوم والتفاعل التجاوبي. *الأستاذ المساعد بقسم الفنون البصرية - جامعة أم القرى
مشاركة :