إنه بيت الله المحرم الذي تلتقي فيه الجموع من كل فج عميق، من كل الأجناس، فيلتقي الرؤساء والمرؤوسون، ويلتقي الفقراء وذوو الأموال، ويلتقي ضعاف الناس مع أقويائهم من ذوي الجاهات والمقامات، فتذوب كل الفروقات التي يصنعها البشر فيما بينهم، ليكونوا في المشاعر والمناسك في ضيافة الرحمن، يحفهم برحمته، ويحوطهم برعايته، مسخراً لهم قيادة أمينة، وقلوباً رحيمة.. ما بين الصورة التي رسمها في الأذهان قول الله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) وبين ما تشاهده العين وتنقله أحدث التقنيات اليوم، بون شاسع من الزمان، مرت فيه الكعبة وما حولها من المشاعر بأحداث وتغيرات جغرافية وسياسية وأمنية ودينية، آل بها المآل إلى ما نراه اليوم من استقرار على كافة الأصعدة. كانت هذه الشعاب والوديان والهضاب مرتعاً للذئاب، وملتقًى للقبائل المتناحرة، وحصنًا لقطاع الطرق، بل وموئلاً لعباد الأحجار والأصنام، حتى جاء الله بالإسلام، فأعاد للكعبة والمشاعر بهجتها ورونقها الديني، وذكّر العالمين بالهدف الأسمى من وضع هذا البيت المشرف وبنائه (جعل الله البيت الحرام قياما للناس)، (وأذن في الناس بالحج) فغدت الكعبة قبلة المسلمين، ومقصد الزائرين، وعادت لها هيبتها، وتلطفت أجواؤها بعبير الخشوع، وتخضيب الوجنات بالدموع. ثم مرت على المشاعر تغيرات جغرافية ما بين زمن البعثة وبين زمننا هذا، وقد بذل المسلمون في كل زمن جهدهم ومقدورهم في تهيئتها لزائريها، وإعدادها لضيوف الرحمن، غير أننا نجد الفرق بيّنًا، بين ما هي عليه اليوم، وبين المراحل التي مرت بها المشاعر، فقد تحقق فيها الأمان بكل معانيه، في سهولها ووديانها، وأجوائها، ظهرت بصورة أبهرت العالمين، في اتساعها وسعتها، ومواكبتها لعصر الحضارة في عمرانها وشوارعها وطرقها، والتحقت بركب "التكنولوجيا" في كثير من تفاصيلها، ويوشك أن تحقق في مجال النقل والمواصلات ما تطمح إليه قلوب المسلمين، ويلبي حاجة الحجاج والزائرين، فأنشأت"السكك الحديدية" وجيء بالقطارات، والمركوبات الضخمة، بما يتناسب مع كثرة الوافدين، حتى إن الحاج ليتنفس حمداً وشكراً لله، حين يرى ذلك الجمع المهول من ملايين الحجاج يجتمع في بقعة واحدة، فلا يكون الزحام عائقاً للخدمات، ولا مانعاً للتطورات التي تهيأ للحجيج ليؤدوا مناسكهم بيسر وسهولة. إن الناظر والمتأمل فيما تبذله المملكة من جهود تجاه خدمة الحرمين الشريفين، بقيادة الملك المفدى، وولي عهده الشاب الأمين، وبجهد مميز من أمير منطقة مكة المكرمة، ليدرك تمام الإدراك عظمة تلك الجهود، والسخاء غير المحدود، ابتداء من التنظيم المتناسق، بين حركة الحجيج وبين منافذ دخولهم وخروجهم، وأماكن مبيتهم واستراحاتهم. وتملأ قلب المنصف الدهشة والسرور حين يحس الأمن والأمان، والجهد المبذول في تحقيقه، ليصبح كما قال الله (ومن دخله كان آمناً)، بجهود رجال الأمن، الذين يبذلون كل الوسع، ويصلون الليل بالنهار سهراً على أمن الحرم وسكينته، ومنع المريد فيه بإلحاد من تحقيق مراده. وكم في الحج من صور نقلتها عدسة، أو غفلت عنها العيون، من صور مساعدة رجال الأمن للحجيج وتوجيههم، والأخذ بيد الضعيف، وحماية التائه وإرشاده، في صورٍ أخلاقية تنبئ عن حسن تربية، وعظمة إحساس بالمسؤولية، وروعة قيادة، وجمال تنظيم. وكم رأينا ورأى العالم، رجال الأمن، وأحدهم يحمل ذاك المسن، وآخر يظللُ على من أجهدته تأدية المناسك، وذاك يرشد الحائر، مواقف كثيرة تجعلنا نحس بالطمأنينة على مستقبل الحرم، ونسأل الله أن يبقي اليد الأمينة التي ترعاه، وتخدمه، ولم تدخر جهداً في توسعته، مستخدمة في ذلك أمهر المهندسين وأعرق المقاولين. إنه بيت الله المحرم الذي تلتقي فيه الجموع من كل فج عميق، من كل الأجناس، فيلتقي الرؤساء والمرؤوسون، ويلتقي الفقراء وذوو الأموال، ويلتقي ضعاف الناس مع أقويائهم من ذوي الجاهات والمقامات، فتذوب كل الفروقات التي يصنعها البشر فيما بينهم، ليكونوا في المشاعر والمناسك في ضيافة الرحمن، يحفهم برحمته، ويحوطهم برعايته، مسخراً لهم قيادة أمينة، وقلوباً رحيمة! استطاعت المملكة أن ترسم خدمة الحرمين بكل الألوان، لتظهر للعالم لوحة فنية للمسلمين ثلاثية الأبعاد، تقهر المشككين، وتعجب زراع الخير من المنصفين، وتثبت للعالم أن الله تعالى قد تولى بحكمته وقدرته حماية هذا الدين. هذا، والله من وراء القصد.
مشاركة :