كان التفوق الهائل للحملة الفرنسية على مصر، والفجوة الشاسعة بين القدرات الفرنسية والقدرات المصرية.. صادماً ومروّعاً. لقد بدَا جيش نابليون في مصر وكأنَّه قادم من كوكب آخر. أتى نابليون بالمدافع والعلماء، فكانت الصدمة المصرية مزدوجة، الذهول من القوة العسكرية المفرِطة والذهول من القدرات العلميّة الهائلة. كان الإمام الأكبر حسن العطار شيخ الأزهر ممن تجاوزوا الصدمة سريعاً، وقرروا دراسة أبعاد القوة الفرنسية، وكيفية التأسي بها، والاستفادة منها.. وذلك لأجل الاستعداد للمواجهة والمنافسة. درس الإمام العطار حقائق القوة الفرنسية، واستعلم من الفرنسيين عن الآلات العلمية والمعدات العسكرية، واختصاصات العلماء والخبراء المصاحبين للحملة. وهو ما كان مثار انتقاد من البعض، الذي رأى مقاطعة العدو، ومواجهة الغزو بالمزيد من الخطابة. غادرت الحملة الفرنسية مصر، ولكن حسن العطار لم يغادر المنهج العلمي الذي اتبعه، بل راح يزور دول العالم للحصول على المزيد من العلم والمعرفة الحديثة. ولقد كانت رؤاه تلك هي الأساس في «عولمة الأزهر» والتأسيس الموضوعي، لعالميّة منهجه ورسالته في العصر الحديث. أدخل الإمام الأكبر حسن العطار الدراسات الأدبية والعلمية في مناهج الأزهر، وكان هو من اقترح على محمد علي باشا أن يرسل البعثات المصرية إلى أوروبا، لتحصيل العلوم الغربية المتفوقة، والعودة للإفادة بها. وقد كان هو أيضاً من رشح تلميذه رفاعة الطهطاوي ليكون إمام البعثة إلى فرنسا، ناصحاً له بتسجيل كل شيء يراه، ونشره في كتاب، وهو ما كان في كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريس». قاد رفاعة الطهطاوي حركة الترجمة التي ساهمت في تأسيس الحداثة المصرية والعربية في تلك الأثناء، وقادت النخبة التي أسسها الإمام العطار مسيرة التحديث في الطباعة والهندسة والقانون. في تلك الأثناء كان البروفيسور الشهير «كلوت بك»، الذي لا يزال اسمه على أحد شوارع القاهرة يواجه مشكلة في تدريب طلاب الطب على علوم التشريح. وحدث أن أحد الطلاب المتطرفين حاول الاعتداء عليه حين كان يشرح دروسه على إحدى الجثث في مدرسة الطب في «أبو زعبل». وقد نهض باقي الطلاب لمنع ذلك المتطرف من طعن الأستاذ. وما كان من الإمام الأكبر إلاّ أن قام بزيارة الطلاب وقام بتوبيخ محاولات رفض علم التشريح، وأفتي بجواز ذلك العلم، لما له من فائدة حقيقية في تقدم الطب في العالم الإسلامي. كان شيخ الأزهر تنويرياً كبيراً، وكان من أوائل الذين أسسوا حركة التجديد الديني الإسلامي في العالم، وهو النهج الذي سار عليه مفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده، وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب ونخبة من علماء الأزهر الذين واصلوا تجديد الخطاب، والصلح بين الإسلام والحداثة. إن جوهر مشروع الإمام العطار كان تجاوز الصدمة، وعدم الاستسلام أو الركون إلى راحة اليأس، بل المواجهة وتصحيح المسار.. حتى أنه كان ينتقد الشاعر الكبير امرأ القيس ومن سار على دربه.. من الذين كانوا يفضلون البكاء على الأطلال في مطلع القصيدة. وكان يرى أن البداية يجب أن تكون الواقع والحاضر، وعن الطبيعة الموجودة لا الطبيعة المفقودة. وهذا هو جوهر الفكر العطاري: ادرس وافهم وتجاوز.. لا تفزع ولا تخف ولا تبكِ على الأطلال.
مشاركة :