قال أبو عبدالرحمن: لأن القادة العظام رموز دينية وطنية قومية تاريخية يفخر بهم المنتمي إلى أمة، ويفخر بمناقبهم؛ لأنه يفخر بإرثه؛ وعبدالعزيز رحمه الله في تاريخه العملاق إرث لكل واحد منا لم تفصل بيننا وبينه القرون وتبدلات الأحوال؛ بل ما نحن فيه من أمن ورغد وعلم وتحضر: فضل من الله، ثم هي ثمار مباركة، وظلال وارفة من الدوحة التي أرسى جذورها، وعهد إلى القوام على المسيرة بسقيها ورعايتها؛ والله سبحانه وتعالى يعز الأمة ويرفع رأسها بفرد، ويخفض آخرين بفرد؛ وعبدالعزيز فرد، ولكنه ذو تاريخ عملاق أحيا الله به مجد أمة؛ فرد لها هوية تفخر بها؛ فهي هوية تتلاحم فيها الديانة والعروبة قيادة؛ وفيها الوطنية مستراح وخفض عيش كل فرد (ويراد بالخفض سعة الرزق)؛ وكل فرد، وكل دار للإسلام وقادته: فهي ذات حقوق وطنية؛ فقد كان الفرد من الجزيرة العربية يحل بالبلاد العربية والإسلامية والعالمية ولا يحمل هوية قيادية يعرفها العالم في الأسرة الدولية، أو العالم الإسلامي في أسرة الرابطة الإسلامية، أو العالم العربي في نطاق همومه الإسلامية القومية القيادية؛ وقد يقول إنه من نجد أو الجنوب أو الشمال، أو من قبيلة كهذا، فلا يعرف من أي خلق الله، ولا يعرف رقعته من أرض الله إلا أنه من جهات مكة أو المدينة؛ وربما عرف مؤرخ واحد من عشرات المؤرخين تميز بأن خبرته التاريخية لم تكن محلية وحسب؛ إذن فقد أصبح ابن الجزيرة يحمل هوية سعودية يفخر بها تاريخًا وحضورًا؛ وهي هوية ما عرفت إلا وهي ذات يد تأسو. قال أبو عبدالرحمن: قد يقال بحق: إنها هوية ذات خيرين: ففي الداخل كانت وحدة أمة، وبناء أجيال، ورفع ظلم، ورغد عيش، وسلامًا لا تتطرق إليه الغربة والقلق، وشموخًا حضاريًا وثقافيًا.. وفي الخارج يد سخاء تأسو نكايات الهموم البشرية على الصعيد الإسلامي؛ فالعربي، فالإنساني.. على أننا آن ذاك حديثو عهد بنعمة، وكنا قبل ذلك ضحايا الفقر والشظف والجهل والمرض ، ولا أحد يتحسس همومنا من جيراننا الذين عندهم أنهار وتفاح وسكر وحبوب ومناسج ومعلمون وأطباء؛ ولما كانت بلادنا لطالبي الرزق، ومقصدًا على غير المعتاد لحجاج بيت الله وزائري الحرمين الشريفين قطفوا ثمار ما خلده الله لعبدالعزيز رحمه الله تعالى من: أمن السبل والفجاج، وراحة الذهاب والإياب، ورغد العيش وطيب الإقامة، وحسن القدوة والأسوة في القول والفعل والمعتقد؛ فهذا شيء من معاني أن هويتنا التي نفخ فيها عبدالعزيز ذات خيرين؛ وعندما ظهر عبدالعزيز إلى بلاده للم الشمل لم يكن أمام رعية ذات وعي علمي تطالب بما لم يخطر على بال الحاكم من إصلاح، وحينئذ يقال: نزل الحاكم على رغمه لمطالب رعيته، وليس بوسعه غير ذلك؟!.. كلا؛ فقد كان الذين يفكون الخط في القرى الكبيرة على أصابع اليد، ولو أراد الخلود إلى الراحة لكان من طبعهم الأمي أن يريحوه!؛ ولكنه كان مثل من يقود الناس إلى الجنة بالسلاسل، ولم يكن غرضه أن يظل حاكمًا لأمة يبزها هو في مواهبه، فيترك الوعي للقيادة، ويترك الرعية في عماء معزولة عن العالم وحدها؛ بل كان طموحه أن يبعث الأمة من همودها، وأن يوقظها من سباتها.. كان هذا همه قبل أن يكتشف الذهب الأسود والأحمر. قال أبو عبدالرحمن: لقد أرخ الشاعر علي بن إبراهيم بن عيد القري (ولد في عنيزة عام 1338هجريًا، وتنقل طلبا للرزق فعمل في جيزان ثم مكة واستقر في جدة وتوفي فيها بشهر شعبان للعام 1415 للهجرة الشريفة، رحمه الله تعالى)؛ فقال: مرحوم ياللي وحد المملكة عام الف وثلاث مية وواحد وخمسين في قصة كنه من أضغاث الأحلام رجل بنى دولة وروض شياطين قال أبو عبدالرحمن: وحروب عبدالعزيز ذاتها إصلاح؛ وكان يقول: أحب شيء إلي السلم؛ لأتفرغ للإصلاح؛ وما أجمل قول (محمد بن عبدالله العثيمين) رحمه الله تعالى: إمام الهدى عبدالعزيز بن فيصل به انهد ركن الشرك وانحط باطل فقد كان في نجد قبيل ظهوره من الهرج ما يبكي العيون تفاصله تهارش هذا الناس في كل بلدة ومن يتعد السور فالذئب آكله فما بين مسلوب وما بين سالب وآخر مقتول وهذاك قاتله ولقد جعل الله في حروب عبدالعزيز الشفاء والصلاح؛ فكانت النتائج كما قال (ابن عثيمين): فأبدلكم ربي من الفقر دولة وبالذل عزا بز خصما يناضله بيمن إمام أنتم في ظلاله يدافع عنكم رأيه وذوابله به الله أعطانا حياة جديدة رفهنا بها من ضنك بؤس نطاوله إن عبدالعزيز لم ينزل على رغبة الجماهير في تحقيق وشل من الإصلاح يتغنى به الإعلام الدعائي أشهرًا، وإنما كان يحارب الجماهير الأمية ليفرض عليها الإصلاح، وهذا جزء من «يدافع عنكم رايه ...» فيما مضي من شعر ابن عثيمين. قال أبو عبدالرحمن: إن استماتة عبدالعزيز في فرض الإصلاح نتيجة لما أشار إليه (فيلبي) في الذكرى الذهبية من تقدير ابن سعود ضعف المجتمع الذي جاء لإنقاذه بإذن الله.. كان مجتمعًا حضرياً غارقاً في الكدح لا ينال البلغة، ولا يعرف الحرب إلا لضرورة الدفاع عن النفس؛ وكان مجتمعًا بدويًا لا يعرف الحرفة، ولا يقتات إلا من نهب أبناء العم، ومن ماشية قتل مالكها ظلمًا وعدوانًا؛ فنظم عبدالعزيز المملكة الحربية لدى البدوي في نظام عسكري تبعًا لأهداف سامية، وألف القلوب على ذلك، وضرب بيد من حديد على من أراد إذهاب الريح بنعرة قبلية؛ وفي نفس الوقت جمعهم ومدينهم لعمارة الأرض، وأبقى الحضري على طموحه في التعمير وشجعه وجدد له الوسائل؛ وفي نفس الوقت نظم منهم جنده للحرب وجعلهم القلب لجيشه؛ إذ سار كهيئة الطائر بجناحين ذي ميمنة وقلب وميسرة.. نظم ملكتهم الحربية لأنه يعرف بلاءهم منذ الإمام محمد بن سعود.. لقد نجح عبدالعزيز في ترسيخ الهدف الديني والقومي والوطني في قلوب الأميين، وصان الشجاع والفروسية الثرية في الجزيرة العربية أن تهدر في ضياع الأمة.. وهو نجاح حققته استجابة طموحة لا تعترف بأدنى قوة على الأرض، وقد أسقط صبيان التوحيد الطائرة بالبندقية البدائية وقتلوا الطيار عنوة، وخاف عبدالعزيز من منتهى الطرفي؛ لأن لديه معادلات ليست عندهم؛ لأنه ذو وعي سياسي يملك به حساً ورؤية؛ والرسائل والمسائل النجدية وما في حكمها تدل على أن تخوف عبدالعزيز صاحب تصميمه على غرس المبادئ، ولهذا بكر في بعث الدعاة والمرشدين من المطاوعة، ومن العلماء يحذرون الناس من مغبة الغلو، ومن تدين بلا تأصيل يضع المعادلات بين المصالح والمفاسد.. لقد نظر أحد الخواجات إلى مؤتمر الدول الإسلامية الذي عقده عبدالعزيز في يونيو 1926 ميلاديًا؛ فرأى أن عبدالعزيز وفق في تهذيب حماس اتباعه بلقاء علماء أكثر ثقافة؛ فتلاقحت العقول.. ومن معادلات عبدالعزيز: أن المتحمسين طالبوا بإزالة حدث بدأ في عهد الوليد بن عبدالملك، ثم أشرب في قلوب الدهماء في العالم الإسلامي؛ فقال عبدالعزيز كلمته الخالدة: أشهد أن الذي أحدث هذا ظالم، وأن الذي يزيله اليوم أظلم منه؛ ولقد رويت الكلمة للشيخ ابن بليهد، ثم حققت بتواتر الرواية الشفوية أنها لعبدالعزيز. قال أبو عبدالرحمن: وأبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء البيت على غير قواعد إبراهيم خوف الفتنة كما صح بذلك الخبر، ولقد كان ما ننعم به من تحضر ثمرة صراع مرير بين عبدالعزيز ومجتمعه منذ إدخال الساعة والتليفون والسيارة؛ ولقد حق لابن عثيمين أن يقول: خبيئة الله في ذا الوقت اظهرها وللمهيمن في تأخيرها شأن وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -
مشاركة :