قال أبو عبدالرحمن: يعرف علم الجمال بأنه: (علم الأحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح).. وكان رأي الدكتور عبدالرحمن بدوي أن هذا التعريف كلاسيكي، أو أنه المعنى الشكلي لعلم نظرية النشاط الجمالي، وعرف الدكتور بدوي الجمال بأنه: (تشكيل العالم وفقاً لقوانين الجمال)، وبيّن الدكتور بدوي أن تعريفه لعلم الجمال متوقف على معرفة قوانين الجمال، وعلى تكوين وتحقيق تصورات تقويمية تملك أهمية توجيه السمو بعملية الحياة الفردية والاجتماعية. قال أبو عبدالرحمن: القسمة الثنائية: (أنّ الفن للفن)، و(أنّ الفن للحياة).. والفن للفن يعني محضية الفن، والفن للحياة يشمل هموم الفرد النفسية (حياته هو)، وهموم المجتمع والأمة والإنسانية.. وكلمة الدكتور بدوي (الحياة الفردية والاجتماعية) تساوي (الفن للحياة).. وآخر كلام الدكتور مبني على تحديده مهمة علم الجمال؛ وهي (تنفيذ قوانين النشاط الجمالي، وأشكاله المختلفة، وأحوال تطورها ( ههنا ينبغي ذكر كلمة مثل (معرفة).. أي ومعرفة أحوال تطورها؛ لأن الأحوال لا يستقيم معناها بالعطف على قوانين؛ وإنما تعطف المعرفة على قوانين، وكيفيات تحقيقها، ومنظورات تطورها ( انظر: فلسفة الجمال والفن عند هيجل ص 5).. ولقد بيّن الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه هذا (طبع المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار الفارس للنشر والتوزيع، ودار الشروق/ الطبعة الأولى عام 1996م ص 5-7) تاريخ علم الجمال وأعلامه؛ فقال: (وأول من دعا إلى إيجاد هذا العلم هو آج باومجارتن A.G.Baumgarten (1714- 1762م) في سنة 1735م؛ وذلك في كتابه (تأملات فلسفية في موضوعات تتعلق بالشعر). قال أبو عبدالرحمن: أريد بالتراث الفكر الهيليني وما تلاه إلى الفكر الروماني والفلسفة الأفلوطينية بالأسكندرية؛ فكل هذا فكر ميتافيزيقي بالمعنى الرديء.. وأقصد أيضاً تراثنا على مدى تاريخنا الإسلامي إلى عهد النهضة الحديثة التي بلورت معنى الجمال ومفهومه بوضوح، وفي هذا التراث قلة من العلماء على مدى تاريخنا الإسلامي بينوا مفهوم الجمال بجلاء، وفي طليعتهم الإمام الحبر (أبو محمد ابن حزم) قدس الله روحه ونوّر ضريحه في كتابه النفيس (طوق الحمامة)، و(مداواة النفوس).. ومنهم محمد بن داوود الظاهري وابن سينا.. والحسن كلمة مرادفة الجمال في سعة الاستعمال لا الوضع، والجمال إحساس مشاعر غامضة، فتحسس الجمال موهبة، وإبداعه موهبة أيضاً.. إلا أن هذه الموهبة عن الجمال الفني الأدبي النصي تتنامى بالقراءة والممارسة، ثم تبقى لكل فنان بصماته الإيجابية؛ لهذا أوصي بالتأصيل العلمي الضروري باستذكار المبادئ التي أخذناها في مراحل الدراسة في النحو والصرف والرسم الإملائي؛ لننطق ونكتب ونصور الرسم وفق خبرة علمية.. وفقدان عنصر الصحة عنصر قبح ينغص على جمال التعبير الفني لدى خاصة العلماء المتلقين؛ وإذا نسي الكاتب القاعدة، وكسل عن المراجعة: فلا يقدم مع احتمال الخطأ؛ بل يأخذ من سعة الكلام ما يجزم بصحته.. وكثيراً ما كنت أفعل ذلك؛ فتغيب عني مثلاً القاعدة في مسألة خلافية من المستثنى منه بأدواته العامة؛ فألجأ إلى المستثنى منه بـ(غير) أو (سوى)؛ لعلمي بالقاعدة فيهما، وهكذا، وهكذا.. والمثال شارح لا حاصر.. وليكن لك كراسة تكتب عليها (كناشة) أو (مفكرة) أو (حصاد القراءة)؛ فتسجل فيها حاجتك إلى مراجعة كتب النحو عن القاعدة في الاستثناء بـ( إلا).. وإن المراجعة إن ثقلت عليك مرةً أو مرتين أو ثلاثاً فلن تثقل عليك أبداً بإذن الله.. والابتذال ينغص على الجمال؛ لأنه جالب الملل والسأم، والتنويع عنصر جمالي.. والابتذال أن يكون الكتاب محصوراً في المفردات الشائعة بين الشداة؛ وإذن فعليه أن يغذي رصيده دائماً بالمفردات المليحة التي تند عن جمهور المثقفين؛ وليس سبيل ذلك حفظ القاموس المحيط، أو المنظومات اللغوية؛ فإن هذا الحفظ مع نفعه يسلب وقتاً كثيراً وجهداً فكرياً يحتاج إليه للتوسع في القراءة بدلاً من الانحصار في المحفوظ؛ وإنما السبيل أن يقرأ المتون من الشعر والنثر، وكتب فحول العلماء في شتى المعارف؛ فيقرأ تفسير المفردات في الحواشي ولا يكسل؛ فإن ود مفردة غامضة لم تفسر فلينشط لمراجعة كتب اللغة والمصطلحات في حينها؛ فإن تكاسل فليودع كراسته الوعد بالبحث عن تلك المفردة، وليودع كراسته كل إيقاع جميل وثب بروحه من مفردة أو كلام مركب.. والإلمام بالمسائل البلاغية ضروري من أخصر مصدر؛ ليكون عنده خبرة تقعيدية بمحسنات التعبير، وبالنكات الفكرية التي يصرف بها الكلام عن ظاهره اللغوي والنحوي؛ فيرم لتعبيره مقومات التصحيح والترجيح معاً.. والبلاغة عند عبدالقاهر هي (النحو الثاني)؛ لأنه الصياغة الترجيحية المخصصة مراد المتكلم من عموم الجائز في اللغة والنحو بشرط التعبير الأرقى الأجمل.. والتفقه المتأني في المعارف الاستاطيقية ضروري أيضاً؛ وذلك بالجمع بين العناصر المشتركة بين الفنون الجميلة؛ فالدراسة لتلك العناصر تربيه على المفردة أو الجملة الراقصة المصورة، أو الموحية، أو المضحكة، أو المفرحة.. وهكذا التوسع في الفكريات؛ ليحتال على غموض المشاعر وضيق التعبير.. ودهشة الابتكار، ولذة التجديد: عنصران جماليان بلا ريب.. هذه بعض أمور تقعيدية، وهناك ما هو تطبيقي باستحضار النموذج الجميل قراءةً، أو كتابة، أو حفظاً؛ وههنا أحذر كل الحذر من التخثر بالتقوقع على قيمة جمالية تاريخية تراثية، أو على ظاهرة من جمال التراث؛ فإذا قيل للمتخثر: (هذه عناصر جمالية إيحائية أو فكرية، أو غنائية ترقيصية، أو تصوير خلاب ليست في نموذج التراثي، وقد تكرم بها علينا الخواجي الفلاني، أو اشتق من علوم الخواجات الفلانية، ونحن بحاجة إلى التحام جمالنا التراثي بجمال ذوي العقول العاملة، والأنامل الماهرة): قال: «ومن إليوت لا در دره، ولأمه الهبل؟؟.. إنه علج حرمه الله نعمة البيان العربي.. وهل ترك ربنا من جمال أدبي فني لم يفرغه في وجدان العرب؟.. أولئك قومي فجئني يا لكيع بمثلهم.. ثكلتك أمك، وتربت يداك، وطال عمر شانيك: هل يقدر (بتهوفن) أو (رامبو) أو (بودلير) أو (ورد زورث) ومن لف لفهم من أولئك العجم: أن يأتوا بالشعر مقفىً على وزن واحد وأشطر متساوية، ثم يرفعون من حناجرهم هزجاً وحداءً ونصباً وركبانياً وهجينياً؛ فترى الإبل تمد أعناقها، وتلتئم خطاها على إيقاع مرتب؛ فتذب المفاوز لا تحس بتعب أو سأم؛ وإنما يرثي لها من كلالة من رآها.. وكم من من ذي أربع يلعب العرضنة أو الخيزلي أو الهيدبى إن لامسه إيقاع عصماواتنا بالحداء.. لهؤلاء الخواجات الويل.. إنما يحذقون السيرك، وملاعبة القردة، ووصف خطاف ونورس..ليك عني يا خواجي، وقف حيث أنت، ولن تكون أديباً ولو صبغت قبعتك بالمداد وأنت لا تحسن رصد الشينات من القاموس، ورصد الراءات، وحشد الدالات من شعر العصماوات، ولأمك الهبل.. ما الذي أصاب أبناء جلدتنا يؤذوننا ببودلير وإليوت؟.. هل أنجبت نساؤهم مثل ابن العميد، وهل رأى الجاحظ مثل نفسه؟. قال أبو عبدالرحمن: في شعرنا العربي التراثي إضاآت مثل: فإن لحاني عاذل في الهوى يوماً فما العاذل بالعادل فهذا الجناس مقصود؛ لأنه من طبيعة الاختصاص العلمي للثعالبي رحمه الله، ولكنه يستلمح إذا استشهد به من غير قصد للجناس؛ لحلاوة سرعة التخلص من غربال العذل بالذال المعجمة بمجرد طرح النقطة؛ فتكون الدال مهملة.. ولكن هذا الجمال البسيط ترتب عليه قبح مركب، فكان غرضاً في نفسه، وهو بهذه القصدية فضول، وتفرعت التقسيمات، وتراكمت المصطلحات الهامشية؛ فسمي الجناس المصحف؛ لأن الثعالبي صحف لقصد جميل في العاذل المعجمة، ومنهم من سماه جناس الخط، وعرفه بما تماثل ركناه.. يعني اللفظين المتماثلين؛ فلا فارق بين العاذل والعادل إلا بالنقطة.. يعني اتفقا خطاً في مجمل الهيئة - يعني بالنقطة وبدونها -، واختلفا لفظاً ومعنى، وتجاسروا على كلام الله سبحانه؛ فقالوا عن قوله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا محمد وجميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام: {والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين} (79-80) سورة الشعراء؛ فجعلوه جناساً بين ويسقين ويشفين، وسموه جناس التصحيف السالم؛ لسلامته من اختلاف الحركة بالتحريف.. أي خلاف زينت (من الزينة) و(زنيت) من الفاحشة، فولد التشديد والتقديم والتأخير تصحيفاً وتحريفاً. قال أبو عبدالرحمن: من قال إن الله أراد هذا الجناس الذي نقله من لغة إبراهيم عليه السلام: فقد افترى على الله الكذب، وقال عليه بغير علم؛ إذ ليس معنى هذا الجناس المعقد من علوم العرب التي نزل القرآن بلغتها، وإنما هو جمال تعبير في مزاوجة وزن الصيغة ومراعاة الفواصل بين يسقين ويشفين بغير نظر إلى إعجام الشين أو إهمال السين، وكون الحرف فاءً أو قافاً.. والجمال في جناس بيت الثعالبي الذي لا تأباه لغة العرب أنه نقل المعنى بإزالة النقطة؛ فاختصر الرد الكلامي العقلي بهذا التصرف.. وأطل القرن التاسع الهجري وقد اكتمل عندنا علم بلاغي اسمه الجناس: تحول به الجمال البسيط إلى قبح مكثف، وكثرت المصطلحات والفروق العقلية الدقيقة بجبروت فكري صرفه الخواجي في اكتشاف ما قدر على اكتشافه من قوانين الكون بالتجارب، وصنع ما قدر على صنعه مما يحقق المنعة أو المتعة.. وفي شعر العوام باللهجات العامية إضاءات جميلة في تفريقهم بين الصورة المرئية (دقة الأشباه)، والحب الروحي (حب المكلفخ)؛ فإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -
مشاركة :