جَمالُ الأغْنِيَةِ الْمُوْسِيْقِيَّةِ، وعَناءُ الطِّفلِ الكبيرِ بقلم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

  • 12/8/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

2017/12/07 قال أبو عبدالرحمن: في هذه الأسابيع الأخيرةِ بدأتْ تنثالُ من الفضائياتِ الأفلامُ السوداء غيرُ ذواتِ الأصباغ تُذَكِّرني شِبْهَ الْمَنْسِيِّ مِن أجيال الطربِ الرومانْسِيِّ والمكشوفَ معاً منذ جيل التخت الشرقي مِن أمثالِ سلطانةِ الطرب منيرة المهديَّةِ، وسيد درويش.. إلخ.. إلى جيل ذلك التخت نَفْسِه ‏مُفْعَماً بالموسيقى الغربية (بالغين المعجمة)؛ التي تألَّقَتْ بالجمالِ الفنيِّ المُجَنِّح بهيْمَنَاتِ محمد عبدالوهاب، ورياض السنباطيِّ.. إلى آخِرِ البقيَّةِ بليغ حمدي (1931 - 1993 ميلاديّْاً /1415هجرياً)؛ وقد زارني في منزلي بحيِّ سلطانة منذ ما يَنِيْفُ على خمسة وعشرين عاماً في حفلةِ عشاءٍ مُتْرَعَةِ بالذِّكريات الطروبة؛ وذلك رَدّْاً لزيارتي إيَّاه في القاهرةِ، ثم تشريفِه منزلي في كفر أبي صير؛ وذلك الظَّرفُ آخِرُ ‏عهدي به؛ وهو آخِرُ عهدِه هو بالحياة الدنيا؛ وكانتْ تلك الأمسيةُ في كفر أبي صير أَكْثَرَ تألُّقاً بألحانه هو، وبمحاكاتِه أجيالَ الطرب القديم من أمثال سيد درويش إلى عبد الوهاب والسنباطي؛ وقد حضر هذه الأمسية أصدقاءٌ من بعض البلدان العربية مع بعض المصريّْيْنَ من أصدقائِه هو؛ وكان (بليغ) كثيرَ الدعابة والمرح ولو كان يتحدَّث عن أمورٍ تُؤْلِمُه، وبعد هذه الأمسية ظلَّ يتصلُ بي من الهاتف؛ فيسمعني مرحَه ودعابتَه؛ مستفتحاً بقوله: (بدل السلام عليكم!!): إزَّيَك يا فنان السعودية. قال أبو عبد الرحمن: وأجْيالُ الطَّربِ منذ منيرة المهدية، وسيد درويش.. إلى الست أم كلثوم.. إلى محمد عبد الوهاب، والسنباطي: يتَّصفُ كلُّ مُطْرِبيهم بأزْيارِ النساءِ، ويتَّصِفُ بعضُ مطرباتِهم بِعُلَبِ الليلِ.. إلَّا أنني كُنْتُ كَلِفاً بهذه العُلبِ في مرحلتين من حياتي: المرحَلةُ ‏الأولى هي أيامُ إقامَتيِ في كفر أبي صير التي تَصِلُ إلى سِتَّةِ أشهر؛ فكنتُ أَستمع إلى تلك الأفلام ومعي قلمي أُسَجِّلُ كلَّ انطباعاتي على نحو ما هو مُثبت في كتابي (هكذا علمني ورد زَوُرْث): في المقدِّمَةِ التي نُشِرت، وفي المقدِّمَةِ التي لم يُقِرِّها الرقيبُ إلَّا أنَّ أوراقَها محفوظةٌ لديَّ.. ولقد عاد إليَّ شبابي عدداً من الأعوام منذ مناجاتي الطويلةِ ل (ورد زورث)؛ ولا سيما قولي وأنا في كَفْرِ أبي صير؛ والريفُ صومعةٌ من صوامع الرومانسية، ومن سحره عرفتُ شيئاً من أسرار العواطف!!.. كيف لا وأنا المتربِّع على غلائله، وأنا كذلك طفلٌ كبير!.. إنه يتكلم بلحمةٍ، ويسمع بشحمةٍ.. لقد رأى أترابه منذ مدرسة ابن حنطي رحمه الله تعالى إلى أن زاحمهم على الدكتوراه وهم رجالٌ عقلاء يُحسنون التَّحفَّظ؛ فاقتنع بأنه كبير.. ولو حاول الحيدةَ لخانتْه طلائعُ الوقارِ والإنذار؛ ولكنه يَنْعم ‏بحياةٍ طفولية لم يحلم بها الرومانتيكيون إلا اقْتساراً.. طفلٌ كبير!! ؟.. طفلٌ عمره خمسةٌ وأربعون عاماً.. ما هذا؟!.. ألا يكون هذا مقدمةً لْلإيمان بالأفكار الماركسية ؟.. الأفكارُ التي تجمع بين المتناقضات والمتعارضات والمتضادَّات ؟.. أَوَ لمْ يبْنِ الرفاقُ فلسفتَهم على وجود المتناقضات، ثم تصارعِها في النفسِ الجُوَّانية والأفكار والطبيعة والمجتمع؟!.. إنَّ (جورج بولينزر)، و(جي يبس)، و(موريس كافين): فلسفوا فكرةَ المتناقضات في كتابهم عن (أصولُ الفلسفة الماركسية)؛ ومثل ذلك فعَل (ستالين) في كتابه عن (الماديةُ الجدلية والمادية التاريخية)، و(ماوتسي تُنج) في بحث له حولَ التناقض في أوْراقِهِ (الكُرَّاسةُ الشيوعية)؛ ولكنَّ الطفلَ الكبير لا يخاف هذه اللفتةَ؛ لأنَّ هذا الكبير الطفل قرأ النظريةَ الماركسية من وجهة نظرٍ فلسفية؛ فأعلن للناس متحدِّياً: أنَّ اجتماعَ المتناقضات فكرةٌ مُتكلَّفة غيرُ صادقة؛ بل غيرُ متصوَّرة؛ لأنَّ ما يحسبه الماركسيُّون تناقضاً مجتمعاً ليس في الحقيقة تناقضاً؛ لأنَّ لِهُويَّةِ المتناقضِ ثمانيةُ شروط؛ وهي وِحدةُ الهُوية، والكيفية، والزمان، والمكان.. إلخ.. والمتناقضاتُ الماركسية مختلَّةُ الشروط؛ إذن الماركسيةُ لم تفهمْ منطقَ الميتافيزيقا.. هذا الكبيرُ الطفلُ من مدرسة فكريةٍ قرطبيةٍ تعصم الفكر البشري بثلاثة قوانين فطرية: أحدها ضرورةُ تخلُّفِ الوسطِ المرفوع؛ أيْ أنْ لا يكون (يكون) تامةٌ لا تقتضي اسماً وخبراً؛ بل تقتضي (فاعلاً)؛ تناقضٌ؛ وعلى الرُّغم من ذلك فهو طفل كبير.. ثم كيف يُفَكِّرُ ذلك الطفلُ ؟.. إنَّه يفكِّرُ بعقلٍ ومنطقٍ في الدرب الضاحِك (شارع رمسيس)؛ وربما قطع تفكيرَه لوحاتٌ دِعائية للفن تقول: ‏(إنهم يقتلون الحمير)، أو (خلِّي بالك من زوزو)، أو (أعطني حباً).. وربما فاجأَهُ الزحامُ برموشِ تضحك، ونظراتٍ تَسْبحْ، وثُدِيُّ تتأهب.. إلَّا أَنَّ العقلَ والوازعَ كبيرٌ بحمد لله، والقلبُ طفلٌ ولله الحمد أكثر؛ فمن يحمل ذلك العقلَ: كبيرٌ؛ ولكنه طفل؛ وهذا القلب طفل كبير.. صَدِّقوا؛ لأنَّ هذا الطفلَ تقمَّص شخصيةَ (حيص بيص) الرجلِ الكبير؛ فقال في غمرة الزحام: كم زوْرةٍ قابلتُّها بتجنُّبٍ ومبذولِ وصلٍ رُعْتُه بالقطائعِ وسَكْرى من الوجدِ الدخيل أبحتُها عَفافَ تقيٍّ لا عفافَ مُخادعِ كان طفلاً ولم يكن كبيراً عندما كان اللعوبان المتعجرفان غذاءً لأمعائه يُفَتِّقانها، ويُنشزان العظم.. وكان كبيراً طفلاً عندما نشزَ عظْمُه؛ وكان اللعوبان غذاء قلبِه.. كان طفلاً عندما كان يرضع.. كان طفلاً كبيراً عندما كان يعضُّ.. كان طفلاً ولم يكن كبيراً عندما كان واضحاً دون تفكير؛ وكان كبيراً طفلاً عندما كان واضحاً وهو يحسن التفكيرَ براءةَ بلا سذاجة، أو سذاجةً عن براءة.. وثِقُوْا أيها الأحباب أنه لا نَصيبَ للطفولة في حياة أناس ابْتلعَهم المتر المربَّع، وسَعَرَهم الصفقُ بالعَرض الزائل.. حمانا الله وإياكم من غِنىً مطغٍ، وفقرٍ مذلٍّ. قال أبو عبدالرحمن: وكفر أبي صير لأسرٍ من القبائل العربية الأصيلة المهاجرة من الجزيرة العربية، وبلاد الرافدين.. هذا الكَفْرُ اتخذْتُه مَخْدعاً للحبِّ المحفوفِ بكلمة الله في خطبة ابن مَسعود رضي الله عنه، ثُمَّ غادرْتُه بعد انتهاءِ إجازاتي المجتمعةِ مودِّعاً أرضَ الكنانة، مستقبلاً تنائِفَ نجد؛ فَتَمَثَّلْتُ بقول أبي الطيب: أُحِبُّكِ يا شمسَ الزمانِ وبدْره وإنْ لامني فيكِ السُّهى والفراقدُ وذاك لأنَّ الفضلَ عندكِ باهرٌ وليس لأنَّ العيشَ عندك بارد فإذا أَوْحَشَتْني ملامح (أبي صير) قلتُ: أيامُنا في حُبِّكم أفراحُ وجميعُ أيامِ المِلاحِ ملاحُ وإذا عدتُ والعود أحمد: قلتُ كما قال ابن المنقار الحلبي: وسَقَى الإلهُ ديارَ مصرٍ وأهلَها أنواءَ سُحْبٍ من يديك عِظام إذا حللتُ بها تضاحَك نَوْرُها فرحاً وبُدِّل نقصُها بتمام. والمرحَلَةُ الثانية لمَّا كنتُ مراقِباً في تِلْفازِ بلادي السعوديةِ مع ثاني الْمَنصور، وخالد خليفة رحمهما الله تعالى.. ومطرباتُ جيلِ عبدالوهاب، والسنباطي اللاتي وصفتُ بَعْضَهُنَّ في إحْدَى مقالاتي بعلب الليل: كُنَّ ‏يَجْبُرْنَ بعضَ السِّمِّيْعَةِ على التداوِي بدائِهم؛ وقد أفَضْتُ عن هذه المسألةِ في كتابَيَّ: (شيىءٌ من التباريح)، و(تباريحُ التباريحِ)، وفي مقالاتي في الجرائد التي لَمْ تُنشر في كتابٍ بعْدُ مِن أمثال: (ما كان ضَرَّك لو مَنَنْت)، و(أما رأتْ عيناك قدَّك) لفريد الأطرش، ‏و(وسط الطريق)، و(كم تمَّنيتُ)، ‏و(نُغنِّي سوا بنعيم الهوى) و(لعين الشمس ما تحماشي)، و(يا ما جَرَحْ الوردِ أيادي).. والأغاني في جِيلَيْ التختِ الشَّرْقي، والتختِ نفسِه مُفْعَماً بالموسيقى الغربيةِ؛ بالغينِ المعجمة: تجذب السَّمِّيْعَةَ للتفاعُلِ معها؛ لِما فيها من تربيةٍ أخلاقيةٍ؛ ثُمَّ تنتهي في الأغلب إلى نهايات مُؤلمةٍ: إمَّا بمحاولةِ قَتْلِ المُطربِ؛ لأنه غيرُ صادِقٍ في حُبِّهِ؛ أو لأنه يحبّ أكثر من واحدة قد يبلغن اثنتَيْ عشرة زوجة؛ وما هُنَّ إلا عشيقاتٍ؛ فيطلِّق الواحدة تلو الواحدة خلال أسبوع، وفعلاً يتم قتلُه بمنظرٍ شديدِ الإيذاءِ للعواطف؛ وإمَّا بأسْرِهِ مِن قِبَلِ النيابة؛ ‏لأنَّ سيرتَه غير مُشَرِّفةِ؛ لأنه سَرَقَ، أو زوَّر، أو غَرَّر بغيره.. إلخ. قال أبو عبدالرحمن: إنَّما الحبُّ الخالِد ما كان محبةً في الله، وما كان حُبّْاً روِحيّْاً لا علاقَة له بالشهوة الجنسيَّةِ التي تَنْطَفِئُ بشيخوخَةِ المحبوبة؛ ولهذا قال الإمام أبو محمد ابن حزمٍ رحمه الله تعالى وصدق في كلِّ ما قالَه: «حاشا» (هذا استثناء من الحبِّ لدوافعَ دنيويةٍ) محبةَ العِشْقِ الصحيحِ الْمُتَمَكِّنِ من النفس؛ فهي التي لا فناءَ لها إلا بالموت؛ وإنكَ لتجدُ الإنسانَ السَّالِيَ بزعمه، وذا السِّنِّ المتناهيةِ: إذا ذكَّرته تذكَّر وارتاحَ وصَبَا (قال أبو عبدالرحمن: صَدَقَ الإمام)، واعتادَهُ الطَّرَبُ، واهتاجَ له الحَنِينُ.. ولا يَعْرِضُ في شيىءٍ من هذه الأجناسِ المذكورة (من شُغُلِ البالِ، والخَبَلِ، والوسواس، وتبدُّلِ الغرائز المرَكَّبَةِ، واستحالةِ السَّجَايا المطبوعة، والنُّحُولِ، والزَّفير، وسائرِ دلائل الشَّجَا) ما يعرضُ في العِشْقِ؛ فصحَّ بذلك أنه استحسانٌ رُوْحانيٌّ، وامتزاجٌ نَفْسَانيٌّ (قال أبو عبدالرحمن: النفسانيُّ خَطَأٌ قديمٌ يُرِيدون به تَعَدُّدَ النفوسِ؛ والصواب (نَفْسيّْيٌ) بدون نون؛ لأنه يعمُّ نفوس البشر)؛ فإنْ قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانتِ المحبةُ بينهما مُسْتَويةٌ؛ إذْ الجُزْآنُ مشتركانِ في الاتصال، وحظُّهُما منه واحد: فالجوابُ عن ذلك أنْ نقولَ: هذه لعمري معارضةٌ صحيحةٌ، ولكنَّ نفسَ الذي لا يُحِبُّ مَن يحبُّه: مُكْتنفَةُ الجهاتِ ببعض الأعراض الساتِرة، والحُجُبِ المحيطة بها من الطَّبائع الأرضية؛ فلَمْ تُحِسّ بالجزء الذي كانَ مُتَّصِلاً بها قبل حُلُولها حيث هي، ولو تخلَّصتْ لاستويا في الاتصال والمحبة..ونفسُ المحبِّ متخلِّصةٌ عالِمَةٌ بمكانِ ما كان يُشْركُها (الأفصحُ الأوضح: يشارِكها) في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثةٌ عنه، مُشتهيةٌ لملاقَاتِه (الأفصح: (ملاقاتَه) بدون لامٍ قبلها)، جاذبةٌ له لو أمكنها؛ كالمَغْنِيطِسِ والحديد.. ثمَّ زاد أبو محمد ذلك بياناً بقوله: ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة، واتِّفاقٌ في الصفات الطبيعية.. لابد من هذا وإن قلَّ؛ وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكَّدت المودَّةُ؛ فانظر هذا تَرَهُ عِياناً؛ وقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواحُ جنودٌ مجنَّدة؛ فما تعارَف منها ائتَلَفَ، وما تناكَرَ منها اختلفَ).. (وهو في البخاري عن عائشة رضي الله عنها)، وقولٌ مرويٌّ عن أحد الصالحين: «أرواح المؤمنين تتعارف»؛ ولذلك ما اغتم (بقراطُ) حين وُصِف له رجل من أهل النُّقصان يُحِبُّه؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: (ما أحبَّني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقِه).. وذكر (أفلاطون) أنَّ بعض الملوك سجنه ظلماً، فلم يزلْ يحتجّ عن نفسه حتى أظهر براءتَه، وعلِم الملكُ أنه له ظالمٌ؛ فقال له وزيرُه الذي كان يتولَّى إيصالَ كلامه إليه: أيها الملك: قد اسْتبان لك أنه بَرِيْىءٌ؛ فما لك وله ؟.. فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل غير أني أجد لنفسي استثقالاً لا أدري ما هو؛ فَأُّدِّيَ ذلك إلى أفلاطون فقال: فاحتجتُ أن أفتِّش في نفسي وأخلاقي شيئاً أقابل به نفسَه وأخلاقَه مما يشبهها؛ فنظرتُ في أخلاقه فإذا هو محبٌّ للعدل؛ كارهٌ للظلم؛ فميَّزتُ هذا الطبعَ فيَّ؛ فما هو إلا أن حرَّكتْه هذه الموافقةُ، وقابلتْ نفسَه بهذا الطبعِ الذي بنفسي؛ فأمر بإطلاقي، وقال لوزيره: قد انحلَّ كلُّ ما أجِدُ في نفسي له.. وأما العِلَّة التي تُوْقِع الحبَّ أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة؛ فالظاهر أن النفس تُولَع بكل شيىءٍ حسن، وتميل إلى التصاوير المُتقَنةِ؛ فهي إذا رأتْ بعضَها تثبَّتت فيه؛ فإن ميَّزتْ وراءها شيئاً من أشكالها اتصلت وصحت المحبةُ الحقيقية، وإن لم تُميِّزْ وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبُّها الصورةَ؛ وذلك هو الشهوة؛ وإنَّ للصور لتوصيلاً عجيباً بين أجزاء النفوس النائية.. وقرأتُ في السفر الأول من التوراة: أنَّ النبي يعقوب عليه السلام أيام رَعْيِه غنماً ل (لابان) خالِه؛ مهراً لابنته (أيْ جعَلَ (لابانُ) رَعْيَ (يعقوبَ) غَنَمَه مَهْراً لزواجه مِن بنتِه؛ ولذلك): شارطه على المشاركة في إنسالها؛ فكلُّ بهيمٍ ليعقوب، وكلُّ أغرَّ للابان؛ فكان يعقوب عليه السلام يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفاً ويترك نصفاً بحاله، ثم يُلْقي الجميع في الماء الذي ترده الغنم، ويتعمد إرسالَ الطَّروقةِ في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين: نصفاً بُهْماً، ونصفاً غُرّْاً. قال أبو عبدالرحمن: الطَّرَوْقُ على وزن (فَعُوْلٍ) بضَمِّ العينِ المهملةِ؛ وهي وَصْفٌ يعني بلوغَ الغايةِ في الوصفِ نفْسِه، وتعني أنَّ الجنينَ نَشِبَ، ثُمَّ تَخلَّصَ؛ وذلك إذا خَرَجَ نِصْفُ الجنين، ثمَّ نشِبَ، ثم تخلَّصَ.. وأبو محمد رحمه الله تعالى في غِنًى عن هذا النَّصِّ من التَّوْراةِ الذي لسنا على تَحقُّقٍ من ثبوتِه.. ثَمَّ قال أبو محمد: «وذُكِرَ عن بعض القافة: أنه أُتِي بابن أسودَ لأبيضين؛ فنظر إلى أعلامه؛ فرآه لهما مِن غير شك؛ فرغب أنْ يُوْقفَ على الموضع الذي اجتمعا عليه، فأُدخِل البيتَ الذي كان فيه مضجعهما؛ فرأى فيما يوازي نظرَ المرأةِ صورةَ أسودَ في الحائط؛ فقال لأبيه: من قِبَلِ هذه الصورة أُتيتَ في ابنك.. وكثيراً ما يَصْرِف شعراءُ أهلِ الكلامِ هذا المعنى في أشعارهم، فيخاطبون المرئِيَّ في الظاهر خطابَ المعقولِ الباطنِ؛ وهو المستفيضُ في شعر النَّظَّام إبراهيم بن سيَّار (من المعتزلَةِ)، وغيره من المتكلمين». قال أبو عبدالرحمن: أبْلَغُ مِن ذلك شهادةُ القافة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حول حِبِّه أسامة بن زيد رضي الله عنه؛ فقد أوردَ البُخاريُّ رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب الفرائض /باب القائف ما نصه: «حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا الليث: عن ابن شهاب : عن عروة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليَّ مسروراً تبرق أساريرُ وجهِه؛ فقال: (ألم تريْ أنَّ مُجَزِّزاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد؛ فقال: إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض).. وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في كتابِه (فتحُ الباري شرحُ صَحيح البخاري): وقال (أيْ البخاري): وقوله: «إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد» في الرواية التي بعدها: (دخل عليَّ فرأى أسامة بن زيد وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما).. قال أبو داوود : نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب: أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه زيد أبيض من القطن؛ فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون: سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونه كافّْاً لهم عن الطعن فيه؛ لاعتقادهم ذلك.. وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين: أنَّ أمَّ أسامة؛ وهي أم أيمنَ مولاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سوداءَ؛ فلهذا جاء أسامة أسود.. وقد وقع في الصحيح عن ابن شهاب أنَّ أم أيمن كانت حبشية وصيفةً لعبدِ الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: كانت من سبيْ الحبشة الذين قدموا زمن الفيل؛ فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله، وتزوَّجت قبل زيد عبيداً الحبشي؛ فولدت له أيمن؛ فكنيت به، واشتهرتْ بذلك؛ وكان يقال لها : أمُّ الظباءِ.. قال عياض: لو صحَّ أنَّ أُمَّ أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنِها أسامة؛ لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود.. قلت: يُحْتَمَلُ أنها كانت صافية؛ فجاء أسامة شديد السواد؛ فوقع الإنكار لذلك.. وتقدم في باب إذا عرَّض بنفي الولدِ من كتاب اللعان حديث أبي هريرة في قصة الذي قال: إنَّ امرأتي ولدت غلاماً أسود)، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعله نَزَعَهُ عِرْقٌ . قال أبو عبدالرحمن: ويبْقَى حُبُّ الشيخِ الْهَرِمِ ذِكْرياتٍ جميلةٍ؛ وهكذا يبقى حبُّ الصَّداقَةِ المبَرَّأةِ من الشهوة التي قلتُ: (إنها مُنْطَفِئةٌ) كَحُبِّ الإمامِ ابنِ حزمٍ رحمه الله تعالى لأحد أصدقائه الذي ألَّف كتابَه (طَوْقُ الحمامةِ) مِن أجْلِه؛ إذْ قال: وكانت مغازِيكَ في كتابك زائدةً على ما عهدتُه من سائر كتبك، ثم كشفتَ إليَّ بإقبالك غرضَك، وأطلعتني على مذهبك.. سجيَّةً لم تزل عليها من مشاركتك لي في حُلْوِكَ ومُرِّكَ، وسِرِّكَ وجهرك؛ يَحْدُوكَ الودُّ الصحيح الذي أنا لك على أضعافه، لا أبتغي على ذلك جزاءً غيرَ مقابلته بمثله؛ وفي ذلك أقولُ مخاطباً لعبيد الله «الأفصح: (عبيدَ) بدون لام قبلها» بن عبدالرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر رحمه الله في كلمةٍ لي طويلة؛ وكان لي صديقاً: أوَدُّك وُدَّاً ليس فيه غَضَاضَةٌ وبعضُ مودَّاتِ الرِّجَالِ سَرابُ وأَمْحَضُكَ النُّصْحَ الصَّريحَ وفي الحَشَا لوُدِّكَ نَقْشٌ ظاهِرٌ وكِتابُ فلو كانَ في رُوحي سِواك اقتلعتُه ومُزِّقَ بالكفَّينِ عنه إهابُ وما ليَ غيرُ الوُدِّ مِنْكَ إرادةٌ ولا في سِواهُ لي إليكَ خِطَابُ إذا حُزتُهُ فالأرضُ جَمْعاءُ والورى هباءٌ وسُكَّانُ البلادِ ذُبَابُ قال أبو عبدالرحمن: شِعْرُ أبو محمد هذا: اقتباسٌ مِن قصيدتين إحداهما للمتنبيِّ، وأخراهما لأبي فراس الحمداني؛ وفي قصيدةِ أبي فراسٍ: إذا صَحَّ منكَ الْوُدُّ فالكلُّ هَيِّنٌ وكلُّ الذي فوقَ التُّرابِ تُرابُ والذي فوقَ الترابِ حقيقةً أنبياءٌ ورسلٌ عليهم صلوات الله وسلامُه وبركاتُه، وصالحون رضي الله عنهم، وكُفَّار، وأشجار، وجنٌّ، وأطيارٌ؛ وأما الْخلْقُ من نورٍ، ومن نار، ومِن ماءٍ وتُرابٌ فشيىءٌ آخرُ؛ لأنه يَشْمَلُ المخلوقاتِ، وليس هو لمخلوق معين مَسْتَقِلٍّ بهُويَّته. قال أبو عبدالرحمن: على طُوْلِ وَتَعَدُّدِ العقودِ التي وُلِدَ فيها الغِناء الرومانْسِيُّ إلى أنْ انْتَهى إلى الغِناء العبقريِّ عند مثل ألحانِ عبدالوهاب والسنباطي إلى أنْ أصبحتْ أفلامُه أصباغاً تثير الغثيانَ: لَمْ يتجاوز حُبَّ الشهوةِ المنطفِئةِ التي كانتْ لَذيذَة أو مَريرة موضوعَ كلِّ أُغْنِيَّةٍ يُغَنَّى بها مسألَةَ الحبِّ؛ إذْ كلٌّ يُغَنِّي على ليلاه؛ ولهذا يُثِيْرَ العَجبَ والسَّأمَ معاً: أنْ يكون جلالُ الحُبِّ محصوراً في هذا النِّطاقِ الضَّيِّقِ.. وأرْضُ الكنانةَ هي الرائِدة في الشعر، والفقه، وسائِرِ العلوم؛ وتلاميذُهم موجودون في كلِّ البلدانِ العربيةِ والإسلامية؛ والطَّربُ عندهم مَشْحُوْنٌ بنكَتِهم العبقريةِ الذكيةِ المليحةِ؛ وهي بلهجتهم المجليِّةِ الشاعريةِ كالجيم تتحوَّلُ عندهم إلى فافٍ ذات ثلاثِ نُقَطٍ مِن فوق (فَرَحِ الورْدِ أيادِيْ)؛ والأصلُ (جرح) بالجيم؛ وهكذا تَتَحَوَّلُ القافُ ذاتُ النقطتين الثَّنائِيَّتينِ إلى الألف المهموزة؛ وهكذا تَتَحَوَّل الذال المعجمة إلى الزاي؛ فكلَّ ذلك يثبُ بالقلوبِ إذا قارنْته ببعض عامِيَّاتِ بعض البلدان العربية مِثلِ (واللِّي ما يَبانا ما نَباه) مع تفخيم الباء؛ والمَعْنَى ما (نبغيه)؛ أي لا نريده.. وقد أفَضْتُ عن هذه الظاهرة في قصيدةٍ لي مليحةٍ عارضها أستاذي عبدالله ابن خميس رحمه الله تعالى، ومِنْ ضمنِها قولي عن العامِيَّةِ المصرية الرقراقةِ المجنِّحةِ: لغةُ العروبةِ في هواها صَبْوتي وأروم أخرى مَن تشوق الْمِزْهرا قال أبو عبدالرحمن: أعني بالأخرى اللهجة العامية المصرية التي لم تحْلُ الأغنيةُ بغيرها في العصر الحديث، والمزهر العود الذي يَضْرِب عليه المغنِّي: فتراه غَرْثانَ الطوى مُتَهَدِّجاً ويزيده كأسُ الوجيفِ توتُّرا تَتَكَسَّر الأنَّات في أوتاره هيهات للمكروب أنْ يتصبَّرا أفديه باللمسات من إيقاعها تلك الصنيعةُ حقُّها أنْ تُشْكرا أفديه بالقسمات من بسماتها فتمجُّ جِريالاً وألْثِمُ كوثرا أفديه بالهمسات من أشجانها فيميس بي بُرْدُ الغواية أخضرا أفديه لم يَشْكُ البعادَ لأنه في حِجرها يجني الرطيبَ مهصَّرا لكنه خَشيَ الصدودَ ملالةً وأشدُّ من وطءِ النوى أنْ يُهجرا يا لُثغةً كوتِ الفؤادَ بدائه (ما أهونَ الدمع الجسور إذا جرى من عين كاذبةٍ فأنكر وادعى) ماذا عليها لو جرى مستغفِرا والقافُ في خُيَلائِها مهموزةٌ حرَّى تُباع لها القلوبُ وتُشترَى لم تَهمزِ القافَ الكئيبةَ ضَلَّة إلا لتهمز قلبَ مذعورِ الكرى والجيمُ قلقلها الدلالُ كأنها تنغيمةُ الرشإ الغضيضِ مُعَذَّرا فاستثنِ يا ابن العاربين مليحةً عربيةَ الأعراقِ تنشر عَبْهرا لبستْ أفانينَ الحضارة مظهَراً لم يُخْفِ وشيُ الظرفِ منها الجوهرا غبرتْ عقودُ العمر في أشواقها مترنحاتٍ كالأهلةِ ضُمَّرا قال أبو عبدالرحمن: وأهلُ الكنانَةِ أَئِمَّةٌ في تحويل الرقْصِ (وهو أَحَدُ الفنون الجميلةِ، ولا حُجَّةَ لمن أبي ذلك) إلى فَنٍّ تعبيريٍّ صامِتٍ، وإنك لتجد أحَدَ رجالِهم وقد بلغ وزنه ثلاثُمِئَةِ كيلو؛ فترحمُه؛ فإذا به خفيفُ الحركةِ في الرقصِ التعبيريِّ يَتَثَنَّى، وتخالُ أنَّ عجِيزتَه إِمَّازَتْ عن ظَهْرِهِ؛ وكأنَّما تُحَرِّكُهُ آلَةٌ كهربائِيَّةٌ تَزِنُ حركاتِه بإيقاعٍ مُنَظَّمٍ.. واعلموا أيها الأحبابُ أنَّ الفَّنّ الغنائي إذا سَلِمَ مِن التجديف يوصَفُ بالجمال، وَضِدُّ الجمالِ القُبْحُ من أمْثالِ أغاني الأفلام ذاتِ الأصباغِ، والحركاتِ الفضوليةِ التي تثير الغثيان، والكلمات الهَجِينةِ جِدّْاً. قال أبو عبدالرحمن: إنما يضيقُ صدري من أشياء قليلةٍ، وكُلُّها مريرٌ؛ وذلك محصور في كثرةِ الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي كلِّ لحظة يقول حادِيهم (والنَّبِيِّ)، ومثلُ ذلك (وحياتك، وحياتي)، ولا برهان على ذلك؛ بل البرهانُ على أنه لا يجوز القسمُ بغير الله؛ ولعلهم ظنَّوا أنَّ الحلف بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم جائزٌ لِما صح به الخبر مِن: (لعمرُ الله، ولعمري، وعمرك الله)؛ وهذا سوءُ فهمٍ؛ فكلُّ ما مضَى حَلِفٌ بالله لا بالنَّبِيِّ؛ فقولك: (لعمري) حلِفٌ بالله الذي عمرني بطاعتِه، وقولك: (عمرك الله) حَلِفٌ بالله الذي عمرك أيها المخاطَب بما ظهر لنا من سيرتِك: أنَّك كَلِفٌ بطاعةِ ربك، حريص على أن لا يبدر منك ما يَشِينُها.. ويضيق صدري مِن عَرْضِ الخمور على الطاولة، والتَّمَضْمُضِ بها، أوْ الشرب منها، والتداوي بالتَّبْغِ والسجاير البُنِّيَّة المتينة، فَيَسدُّ دخانها الأُفُقِ؛ فكل ذلك دعاية لهذه الأوبئة، فَيَقَعُ الْغِرّ في تعاطِيها؛ ثم إذا به يَرْبِضُ في الشَّبَكَةِ؛ فقد اشتهر عند أهل (حائل) عن المُحبِّ إذا وقع في العشق: أنْ يقولوا: (رَبَضَ فلانٌ في الشبكةِ)؛ وذلك تشبيهٌ بالذئب إذا وَقَعَ في الحُبَّالةِ الرَّاصدةِ له؛ وهي من الحديد الصُّلْبِ الثقيل الذي يزن الجملَ الصغيرَ؛ فلا عِتْقَ له إلا بهدايةِ إعانةٍ مِن الله؛ وقد فصَّلْتُ في كتابي (كيف يموتُ العُشَّاق) أحوالَ العُشَّاقِ الرابضين في الشبكة.. وأمَّا الْمُخَدِّراتِ كالحشيش والأفيون فلم أَرَ لها وجوداً خلالَ غنائِهم؛ وإنما رأيتُ أَهْلَ الأرياف التي زرْتها يَطْرُدونَ مِن مجالِسهم شارِبَ الخمرِ إذا جاءهم سكرانَ، وشموا منه رائحة الخمر؛ لأنه مُحَرَّمٌ بنصوصِ الشَّرع الْمُطَهَّرِ، وهم يتهادون الحشيش والأفيون، ويتعاطونه علناً في حَفلاتِهم؛ لأنه لم يرد نَصٌّ باسْمِه؛ وهكذا يتلاعَبُ الشيطانُ بعقول الأبرياء السليمةُ قلوبُهم؛ ويوصفون عند العامَة بقول الواحِدِ منهم: (فلانٌ على نِيَّاتِه)؛ أيْ أنه لا يُضْمِرُ كيداً، أو اِحْتيالاً؛ فيا رَبِّ عفواً قد طغتْ أقلامُنا، وإلى لقاء إنْ شاء الله تعالى مع بقية تلك الظواهر، والله المستعان.

مشاركة :