البلاغة المعمارية تمثل مرحلة شعرية لغوية تتطلب مقدرة على استخدام المفردات ودمجها في نص متناغم، وهي المرحلة الثالثة التي يتشكل فيها المعنى «الظاهر» الذي يمكن قراءته بشكل مباشر وغير مباشر.. لعل أكثر ما يستوقف المرء عندما يكون الحديث حول ما يجمع بين العمارة والشعر، وأقصد ما يجعل الشعر شعراً، وما يجعل العمارة عمارة، والمقصود هو أن ليس كل نظم أو نثر يطلق عليه شعر، وليس كل مبنى يمكن أن ندرجه ضمن العمارة. فخلال الأسبوع الفائت كنت في حضرة ملتقى يضج بالشعراء، ورغم أنني سمعت كثير من النظم والنثر ولكن أعترف أنني لم أسمع الشعر إلا نادراً. في البداية يجب أن أعترف أنني لست ناقداً للشعر، ولست متخصصاً في مدارس الأدب، وقليل من الشعر الذي يلفت انتباهي، ولكن كذلك قليل من العمارة يجعلني أتوقف عنده، ولعل هذا يجعلني أستشعر أن هناك شعراً غير منطوق يكمن داخل الجدران وبينها، وهو شعر يخاطب عيوننا وليس أذاننا، وكأن العمارة تعارض قول بشار بن برد «والأذن تعشق قبل العين أحيانا». يظهر لي أن الشعر الصامت الذي يكمن فيما نراه حولنا، يمكن ربطه بما أشار له كتاب إدوارد هول «اللغة الصامتة»، وكان يؤكد باستمرار أن الناس تتخاطب بصمت بقدر ما تتخاطب لفظاً وكتابة، ففي كتابه الأول «البعد الكامن» توصل إلى أن الناس يعبرون عن ثقافاتهم من خلال ترك مسافات محددة بينهم، ويرى أن هذه المسافة تختزن الثقافة الكامنة التي يعبر عنها الناس المنتمون لثقافات مختلفة دون وعي. كل ما ينتجه الإنسان بوعي ودون وعي له دلالاته الثقافية العميقة، وهذا ما يجعلني أسأل عن ماهية الشعر الذي تقدمه عمارتنا، وهل يمكن أن نصل إلى اتفاق ولو بحد أدنى بأنه يعبر عن ثقافتنا؟ ويبدو أن سؤالي هذا لا يشكل هاجساً لدى المعماريين ونقاد العمارة بقدر ما يشكل الشعر هاجساً لدى الشعراء ونقاد الأدب، ولعلي هنا أشير إلى الرابطة القوية التي تجمع الأدباء والشعراء ولا تجمع المعماريين ونقاد العمارة، ففي لقاء الشعر -الذي ذكرت- أتى شعراء من كل مناطق المملكة، وهذا يبدو تقليداً قديماً بين المهتمين بالشعر والأدب ولم أجده أبداً بين المعماريين، ولكن هذا لا ينفي صفة الشعر عن العمارة وإن كان ينفي صفة الشعراء عن المعماريين. من الجدير بالذكر أنه يصعب إثبات شاعرية العمارة، ويحيل كثير من النقاد هذه الشاعرية إلى الأحاسيس الفردية التي يصعب قياسها، ويبدو أن فكرة «شاعرية العمارة» أو «شاعرية المكان» أصبحت جزءاً من التصور الفلسفي كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابة «شاعرية المكان»، وفي الواقع يندر وجود كتابات رصينة حول «شاعرية العمارة» إذا ما استثنيا كتاب الناقد أنتوني أنتونيادس Anthony Antoniades والدراسات المشابه له، وجميعها لم تستطع إثبات شاعرية العمارة بقدر ما حاولت أن تستثير المشاعر حول جمالية الصورة أو المكان الذي يمكن أن يرتبطا بالعمارة. إذاً أين يكمن الشعر في العمارة؟ لن أدعي أن هناك إجابة عن هذا السؤال، فحتى نقاد العمارة لم يتطرقوا له كثيراً كدراسة مستقلة، بل يتم إثارة وجود الشعر في العمارة عرَضاً في كتاباتهم. يمكن أن أشير إلى تجربتين قمت بهما مع طلاب الدراسات العليا في كلية العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، إحداها بحث ماجستير أنجز منذ عدة سنوات وكان عنوانه «قراءة العمارة شعراً»، والثانية بحث دكتوراة مازال في مرحلة الكتابة. في البحث الأول كان هناك تضارباً بين فكرة شاعرية العمارة وحضور المكان في الشعر، والفرق هنا كبير جدًا، فحضور المكان ليس له علاقة باللغة الشاعرية الصامتة التي تحرك المشاعر ويصعب وصفها بالكلمات. في الدراسة التي مازالت قائمة تم تطوير مقياس لفهم العلاقات المركبة في التكوين المعماري الذي تكمن داخله الشاعرية الصامتة. يبدأ المقياس من المكون النفعي، فالعمارة مجموعة من الوظائف المتشابكة التي تؤدي أغراضاً نفعية ليس لها علاقة بالشعر أو الجمال، على أن سرعان ما تتشابك هذه الوظائف بمرحلة «العرض البصري» وهنا يتشكل النص الشعري المبدئي، فطالما هناك نص يمكن قراءته بصرياً فهو إما أن يكون نصاً رديئاً أو بليغاً، والبلاغة المعمارية تمثل مرحلة شعرية لغوية تتطلب مقدرة على استخدام المفردات ودمجها في نص متناغم، وهذه المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي يتشكل فيها المعنى «الظاهر» الذي يمكن قراءته بشكل مباشر وغير مباشر. وتبقى المرحلة الأخيرة لتمثل أوج النص المعماري، عندما يحمل هذا النص معاني رمزية كامنة وعميقة تغوص في جوهر الثقافة، يتبقى أن تبرهن هذه الدراسة هذا المقياس الشعري في الواقع، وهنا تكمن الصعوبة. لعلي أشير إلى أنه يوجد ثغرة واضحة بين الشعر في قالبه اللغوي المحض، وشاعرية العمارة التي هي مجرد تخمينات ومحاولات ومشاعر فردية يبديها المتلقي ولا تخضع إلى منهج واضح يمكن الركون إليه.
مشاركة :