تهاوي العملات يفاقم الفقر

  • 2/18/2023
  • 23:10
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

شهدت وما زالت دول كثيرة من بينها بعض دول منطقة الشرق الأوسط تراجعا وتدهورا في أسعار صرف عملاتها، بل إن بعض العملات يعاني سقوطا حرا في أسعار صرفها. إن أزمة العملة في أي بلد مؤشر إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية وارتفاع فرص تعرض كيانها وشعبها لآثار كارثية. فانهيار العملات يصعد معدلات التضخم، ويسرع تآكل القوة الشرائية لمعظم الشرائح السكانية، ويرفع معدلات العوز والفقر ومعاناة متوسطي الدخل. وإذا اشتدت أزمة العملة فقد تجبر الدول على التخلف عن سداد ديونها الخارجية، وإشهار إفلاسها، وانهيار أنظمتها المصرفية، والهبوط بمستويات المعيشة إلى مستويات متدنية، كما حصل في لبنان. لا تفضل الدول خفض عملاتها وتقاومه بدرجات متفاوتة، لكن السياسات النقدية والمالية التي تتبناها الحكومات هي المحدد الأول لاستقرار العملة. وتثبت تجارب دول العالم بما لا يدع مجالا للشك التأثيرات السلبية الحادة الناتجة من تراجع العملات في رفاهية الشعوب، التي تتفاقم مع زيادة تهاوي أسعار الصرف. وتأتي التأثيرات السلبية لتراجع أسعار العملات من رفعها أسعار السلع والخدمات ومدخلات الصناعة المستوردة، التي ترفع تكاليف المعيشة لجميع السكان. وتسعر الواردات عادة بأسعار العملات العالمية الرئيسة، وخصوصا الدولار. لهذا ترتفع تكاليف السلع المستوردة في الموانئ بشكل متساو مع تراجع أسعار الصرف، ويسري الشيء نفسه على الخدمات المستوردة. وتضاف داخل الدول خدمات ومدخلات وأرباح وضرائب إلى الواردات وتحمل على المستهلك النهائي. يتأثر كل شرائح المجتمع بزيادة تكاليف الاستيراد، لكن تتفاوت زيادة أسعار السلع والمنتجات والخدمات بين الشرائح المجتمعية. وينفق الفقراء ومنخفضو الدخل حصصا أكبر من ميزانياتهم على السلع الأساسية، كالأطعمة والألبسة والأدوية مقارنة بالشرائح الأعلى دخلا. ووجد من تجارب الدول ارتفاع حصة الواردات في المواد الأساسية، ما يعني زيادة أسعارها بشكل أكبر من السلع والخدمات الأخرى عند تراجع أسعار العملة. لهذا ترتفع تكاليف معيشة الفقراء بنسب تفوق نظيرتها للفئات السكانية الأوفر حظا. يضاف إلى ذلك أن الفئات الأقل دخلا تميل إلى استهلاك الأنواع الأرخص من البنود الاستهلاكية التي تتأثر بدرجة أكبر بتراجع العملة؛ نظرا لانخفاض القيمة المضافة إليها محليا. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فمنخفضو الدخل يتسوقون عادة من منافذ تضيف أرباحا وخدمات أقل إلى المنتجات المبيعة ويصعب عليها تحمل أي جزء من زيادة تكاليف الاستيراد، لهذا فهي تمرر معظم، إن لم يكن كل، زيادة في الأسعار إلى المستهلك. عموما، يقود اختلاف السلة الاستهلاكية للفقراء ومحدودي الدخل وأساليب تسوقهم، وتشكيل الواردات جزء أكبر منها، إلى تآكل دخول الفقراء الحقيقية بمعدلات تفوق معدلات الشرائح السكانية الأخرى. وإذا أضيف إلى ذلك انخفاض دخول الفقراء وتضاؤل معدلات ادخارهم وصغر ثرواتهم، فقد ينجم عن ذلك تفاقم معضلات نقص التغذية وتراجع مستويات التعليم والتغطية الصحية بينهم. إضافة إلى ذلك، يتسبب تراجع الدخول الحقيقية للشرائح السكانية القريبة من الفقر، الناتج من تهاوي العملة في سقوط مزيد منهم داخل دائرة الفقر، ما يرفع عدد الفقراء ونسبهم. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد يتسبب تهاوي العملة في عجز كثير من المنتجين عن تأمين مستلزمات الإنتاج المستوردة، ما يؤثر سلبا في وفرة المنتجات المحلية ويزيد تكاليفها ويرفع معدلات البطالة، ويفاقم بالتالي الظروف المعيشية للشرائح العاملة الأقل دخلا. وتشير بيانات الدول التي عانت تراجعا حادا في أسعار صرف عملاتها إلى تفاقم معضلة الفقر وارتفاع نسبه، وتراجع عدالة توزيع الدخل عموما بين السكان. يعاني سكان الدول النامية تدهور العملات بشكل أكبر من سكان الدول المتقدمة. ففي الدول المتقدمة ترتفع نسب القيمة المضافة إلى السلع والمنتجات المستوردة، نظرا إلى زيادة درجات التصنيع والمعالجة والخدمات على الواردات، ما يمرر نسبا أقل من زيادة تكاليف الواردات. أما في الدول النامية، فتقل نسب القيمة المضافة على الواردات، ما يمرر معظم زيادات الأسعار الناتجة من تراجع أسعار الصرف إلى تكاليف السلع والخدمات. رغم أهمية استقرار أسعار الصرف بالنسبة للفقراء ومحدودي الدخل، إلا أن بعض الدول والمؤسسات العالمية تتغافل عن الآثار السيئة لتدهور أسعار العملات على أحوال الشعوب المعيشية. وعلى الرغم من عدم ثبوت فاعلية هبوط العملات في تحفيز النمو والصادرات بشكل قطعي، إلا أن بعض صناع القرار والمؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولي، يركز على تحرير أسعار الصرف لتشجيع نمو الصادرات وتحفيز النمو. ويحاول البعض الحد من خسائر الفقراء الناتج من تهاوي العملة السلبي من خلال تحويلات اجتماعية معظمها هزيلة وغير كافية. وبدلا من ذلك ينبغي للدول في المقام الأول تجنب الوقوع تحت ضغوط خفض أسعار الصرف من خلال تبني سياسات نقدية ومالية حصيفة طويلة الأجل تحافظ على استقرار العملة وتسهم بدورها في حماية الفقراء من الآثار الكارثية لتهاويها. إن سياسات محاربة الفقر بطبيعتها طويلة الأجل وتتطلب أعواما كثيرة لتأخذ فاعليتها. في المقابل، قد يؤدي هبوط العملة الحاد في وقت قصير إلى محو آثار السياسات الإيجابية لمحاربة الفقر، بل يفاقم معاناة الفقراء. لهذا تكتسب سياسات استقرار أسعار الصرف أهمية قصوى وهي من أقوى الأدوات التي تؤثر في معيشة الناس والأنشطة الاقتصادية، وينبغي أن تدار بحذر وحكمة وألا تخضع للمساومة، وأن تكون قادرة على تخطي التحديات المحلية والخارجية الطارئة.

مشاركة :