العقل الغربي الحديث والقيم الإنسانية الجديدة

  • 2/25/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

إن المؤسسة العلمية الغربية تقوم على فلسفة تربوية غربية، تتمثل النظرية الغربية في منهجية عرض الأفكار أو حتى المعرفة، فالاتجاه الغربي في التفكير يقوم على روح المدنية الأوروبية الغربية.. يحاول العقل الغربي زرع قيم إنسانية جديدة ذات جذر مادي في مواجهة القيم الإنسانية الفطرية السائدة، فالغرب دائماً ما يصور نفسه كمنتج للقيم، ولكنها قيم ذات مقاصد سياسية وأيديولوجية، وهي محاولة منه لإبراء نفسه وتنصله من تاريخ طويل من الحروب والاستعمار. فعندما نتتبع مثلاً قيمتي التسامح والعدل، الخصلتان الأكثر نبلاً في الإنسان، نجد أنهما ليستا فعلاً أصيلاً ومركزياً في العقل الغربي الحديث. فإذا كان التسامح والعدل واجبان ومسؤوليتان أخلاقيتان عند بعض المجتمعات الإنسانية إلا أنهما نسبيان لدى العقل الغربي، وليسا قيماً مطلقة يلتزم بهما لذاتهما، وهذا يكشف بطريقة منهجية وموضوعية تغليب العقل الغربي للحس والمادة، وفي هذا يقول الكاتب النمساوي محمد أسد: "إن المدنية الغربية لا تجحد الله البتة، ولكن لا ترى مجالاً ولا فائدة لله في نظامها الفكري الحالي، ونتيجة لذلك فإن الإنسان الغربي أسلم نفسه لعبادة المادة، لقد فقد منذ وقت طويل براءته، فقد كل تماسك داخلي مع الطبيعة، لقد أصبحت الحياة في نظره لغزًا. إنه مرتاب شكوك، لذلك فهو منفصل عن أخيه الإنسان، ولكي لا يهلك في وحدته وفرديته هذه فإن عليه أن يسيطر على الحياة بالوسائل الخارجية، وحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرة على أن تشعره بالأمن الداخلي، ولذا فإن عليه أن يكافح دائماً وبألم في سبيل هذا الأمن، وبسبب أنه قرر الاستغناء عن كل توجيه ديني فإن عليه أن يخترع لنفسه، وباستمرار، حلفاء ميكانيكيين؛ من هنا نما عنده الميل المحموم إلى التقنية والتمكن من قوانينها ووسائلها، إنه يخترع كل يوم آلات جديدة ويعطي كلاً منها بعض روحه لكي تدافع عنه في سبيل وجوده، وهي تفعل ذلك حقاً، لكنها في الوقت نفسه تخلق له حاجات جديدة ومخاوف جديدة وظمأ لا يروى إلى حلفاء جدد". وهناك اجتهاد لتفسير هذا السلوك المنهجي، وهو أن المؤسسة العلمية الغربية تقوم على فلسفة تربوية غربية، تتمثل النظرية الغربية في منهجية عرض الأفكار أو حتى المعرفة، فالاتجاه الغربي في التفكير يقوم على روح المدنية الأوروبية الغربية. وقد خضع الشرق في وقت مبكر لقراءات نقدية تاريخية قائمة على سياق التجربة الغربية -الشق الأوروبي الغربي-، وبالذات بعد أن اعتبرت السوسيولوجيا علماً نقدياً، وعلى إثر هذا تعرضت المعتقدات والثقافات الشرقية القديمة لحركة نقدية واسعة من قبل العقل الغربي، كانت تلك القراءات النقدية التاريخية والمؤسسة على علم الاجتماع الحديث مستقاة من نظريات وأفكار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر والمفكر الفرنسي إميل دوركايم، التي تناولا فيها أديان وثقافات الشرق، بما أسمياه الفشل الثقافي التاريخي الشرقي في إحداث نقلات وتحولات حضارية عالمية كبرى، قياساً إلى ما سجله الغرب الحديث من نقلات وتحولات حضارية، تمثلت في عصر النهضة، فالشرق -في عرفهما- استنفد مهماته التاريخية، ولم يستطع البرهنة على نفسه منذ القرن الثامن عشر وإلى القرن العشرين. وإن كان من الخطأ المنهجي رؤية الشرق بمنظار الوعي والتجربة الغربية أو قراءة المجتمعات الشرقية من واقع المنهجية العلمية الغربية أو أدوات الفكر الغربي أو العقل الغربي الحديث. فما يقدمه فيبر -ذو التاريخ اليساري- أو دوركايم مجرد إرث مسيحي روماني فلسفي أعيد بناؤه في قالب فكري، يبدو وكأنه نسق فكري جديد في محاولة لتغيير الواقع بمنهجية ترويض الشرق فيما يتعلق بحياته الثقافية والدينية، وإحالته إلى مجرد فضاءات فراغية قابلة للتوظيف من قبل الإنسان الغربي الحديث، وذلك عن طريق خلخلة بنى الوعي الثقافي، وتفكيك المقدس الديني، وتشكيل الشرق بأفكار الأزمنة الحديثة لأغراض السيطرة والهيمنة والتسخير الاقتصادي. وهو الدور نفسه الذي تعرضت له الحركة البروتستانتية عندما وضعت البذرة الأولى في حقل النظام الرأسمالي، وكانت حجر الزاوية في بداية مراحل صناعة النظام الرأسمالي الحديث، فقد كانت البروتستانتية أدت دورًا كبيرًا في تشكيل النظام الرأسمالي، حين ضخت طاقتها الدينية في مفاصل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، وبعد أن تكامل النظام الرأسمالي، وانتظم في جميع ميادين الحياة العامة، تراجعت الحركة البروستانتية شيئاً فشيئاً ثم تداعت تحت ثقل السنوات وتهاوت، وكانت أولى ضحايا العالم الحديث التي كانت سبباً في ولادته، وهي محاولة لتنشئة العالم من جديد على القيم الثقافية الغربية والأنماط السلوكية والمفاهيم الحضارية بوسائل سياسية واقتصادية وتقنية غير محايدة، وإنتاج قيم وعادات وتقاليد جديدة، توحد العالم سياسياً وثقافياً وفكرياً. يقول ديفيد روثكوب مدير مؤسسة هنري كسنجر: "يجب على الولايات المتحدة الأميركية أن تعمل على نشر ثقافتها بكل الطرق والوسائل؛ لأن الثقافة الأميركية هي نتاج القيم والثقافة العالمية". ولذلك يؤكد الغرب الجديد أن على العالم اليوم أن يتمثل قيم الغرب وسياساته واقتصاده وأفكاره ومناهجه وحتى أخلاقه.

مشاركة :