العقل الغربي الحديث بين الحقيقة المطلقة والفلسفة الشكية

  • 3/3/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تسربت الفلسفة الشكية في الغرب في كل الميادين، وكان أكثر من عانى ذلك الأخلاق ونظرية القيم، كما عانى التاريخ منها أيضاً.. فقد تنصل التاريخ الذي كان يتحرك من خلال البحث عن حقيقة الماضي، وأخذ يتقرب من الكتابات الخيالية.. استكمالًا لحديثنا السابق حول العقل الغربي الحديث يذكر الدكتور محمد الفاضل بن علي اللافي في كتابه (تأصيل الحوار الديني) نقلًا عن كتاب (مقدمة إلى الحوار الإسلامي - المسيحي) للكاتب محمد السماك اعتقاد الغرب بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة وأن من واجبه أن يفرضها على الآخرين بحجة أن هؤلاء الآخرين غير متحضرين، وفي هذا يؤكد الفيلسوف رجاء جارودي أن المسيحية كانت بالنسبة للغرب الحقيقة المطلقة فاستخدمها باحتلال العالم ثم وجد الحقيقة المطلقة في العلم فاستخدم التقدم العلمي وسيلة لفرض سيادته على العالم. والآن يضع الحقيقة المطلقة في إطار الحداثة والتطور و(العولمة) والتكنولوجيا لمواصلة تبريراته السابقة بإلغاء الآخر واحتوائه وترويضه وتدجينه. فالفكر الغربي في بعض جوانبه فكر بروغماتي مصلحي لا تحركه المبادئ ولا يؤمن بالفكرة الإنسانية الجامعة بقدر إيمانه بذاته، فالأنا والآخر عنده متصادمان متخاصمان. وأعتقد أن أحداثًا كثيرة في العالم شاهدة على انحراف القناعات السياسية الغربية واختلال الضوابط المعيارية، فإذا كانت هذه طبيعة العقلية الغربية مع بعض الاستثناءات، فإنه لا يمكن فهم هذه العقلية الغربية إلا بالوقوف على السياقات المعرفية الفلسفية لهذه العقلية.. فتاريخ العقل الغربي يعكس خطورة الأدوار والمواقف والأساليب ذات التوجهات السياسية والأيدلوجية التي قام بها في تاريخه الطويل. وإن كنت في الواقع لا أقصد محاكمة هذا العقل، وإنما كشف حقيقته وأنماط تفكيره والنظر اليه بعين الناقد الموضوعي المحايد.. فالعقل الغربي من حيث المبدأ يقوم على الفلسفة الشكية، وهنا يضعنا الدكتور اللافي في إطار تلك الفلسفة.. حيث يرى أن الفلسفة الشكية الغربية الحديثة لها جذورها المستمدة من دعوة تحرير العقل الغربي من الكنيسة واللاهوت، مؤكداً أن سبب ازدهارها إنما يعود الى الانتصارات التي حققتها في مجال العلوم الطبيعية حيث خاض العقل معركة حاسمة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، مـن أجـل حق الإنسان في أن يفكر خارج نطاق تسلط الكنيسة ومقولات أرسطو، وفي مقابل الهجوم المتوالي من جانب الفلسفة التجريبية الإنجليزية أخذ العقل في الامتزاج مع تيار الرومانسية، وبهذا جعل نفسه في مكانة أضعف وأكثر قابلية للنقـد، وجاء الإخفاق النهائي مع الحرب العالمية الأولى التي ضربت بالمثاليـة عـرض الحائط في جامعات أوروبا والتي كان يغلب عليها الفكر الهيجلي. وقد وسم الفكر الفلسفي الغربي منذ الحرب العالمية الأولى بالفلسفة الشكية، وهي في حقيقتها فلسفة تجريبية متطرفة لا تعترف بأي حقيقة إلا تلك التي مصدرها الحس، وعلى الرغم من أن الحس يستطيع فقط أن يعطي الاحتمالات، والتي بدورها لا يمكنها أن تقيم أساساً أي قاعدة للميتافيزيقا والأخلاقيات والجماليات، وعند ذلك فقدت الفلسفة أعظـم اهتماماتها وانحصرت في المنطق والتركيبات اللغوية، أمـا عـن مشاكل المضمون، فإنهـا انتهت إلى أن تكون مسائل للأشكال الخطابية والاصطلاحية، وبدلا من الاهتمام بالحكمة اقتصرت الفلسفة على "التحليل". وأصبحت مدارس أثينا صورة هزلية، تظهر كقناة فكرية لا يحكمها مبدأ عقلي. فقد تسربت الفلسفة الشكية في الغرب في كل الميادين، وكان أكثر من عانى ذلك الأخلاق ونظرية القيم، كما عانى التاريخ منها أيضاً.. فقد تنصل التاريخ الذي كان يتحرك من خلال البحث عن حقيقة الماضي، وأخذ يتقرب من الكتابات الخيالية، ولم يكـن الدين بمنأى عن تلك الفلسفة، فهو أيضاً انحصر في دائرة الأمور الشخصية التي ليس لها من قيمة إلا الوهم والتقليد، وعكست الفنون بدورها هذا الاضمحلال، ووجدت نفسها حرة من كل المقاييس، وبدأت تتبنى الصور والأفكار للإنسان، وتبرز انحلاها بدعوى استقلال العمل الفني تارة وحرية الفنان تارة أخرى. وإن كنا لا نقصد التعميم في هذا الطرح، فقد عرف الغرب فلاسفة ملهمين وكثيرا من المتنورين الموضوعيين الذين كانت لهم مواقف مشرفة تجاه الحضارات والثقافات الأخرى، والذين عرفوا بمواقفهم السياسية التاريخية المحايدة وتجردهم للحق والعدل والاتجاه الإنساني.

مشاركة :