شهد القرن العشرون الكثير من الأحداث التي كانت لها تداعيات غيَّرت وجه العالم لسنين قادمة؛ فلقد مثَّل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 بداية سلسلة من الأحداث تسببت في انكماش سلطة أوروبا التقليدية وتقليص سيطرتها على العالم. وشهدت نهاية الحرب زوال أربع إمبراطوريات قديمة هي: هوهنزولرن في ألمانيا، وهابسبرج في النمسا، وروسيا القيصرية، وتركيا العثمانية. وعلى صعيد آخر تمخضت تلك الحرب عن دول مثل: بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، والعراق، وسوريا وغيرها. وتسارعت وتيرة الاستقلال عن إمبراطورية هابسبرج المتهاوية في النمسا، إلا أن الدول التي خرجت إلى حيز الوجود في فرساي (مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا) لم تنعم طويلاً بالسلام والأمن، ذلك لأن الدول المجاورة لها قضمت بعض أراضيها، ثم تفكك بعضها لاحقاً، وغرقت البلقان في الدماء لاحقاً، وتفككت دول بسبب الصراعات الضارية التي نشبت بسبب الاختلافات العرقية والدينية. إن قرار أركان الحرب الألماني بتهريب فلاديمير لينين سراً في مقصورة قطار مغلقة إلى روسيا للإطاحة بنظام حكم القياصرة هناك لم تهدف إلى إيقاف جهود روسيا العسكرية على الجبهة الشرقية، ومنعها من أن تحارب جنباً إلى جنب مع بريطانيا العظمى وفرنسا. لكن هذا القرار كانت له أن يكون له تداعيات مدوية ظلت أصداؤها مسموعة حتى أواخر القرن العشرين. اندلعت ثورة لينين عام 1917 إيذاناً بتأسيس أول دولة إشتراكية في العالم لا هدف لها سوى تصدير ثورة عنيفة في ثوب الشيوعية لتدمير الغرب ونظامه الرأسمالي. كانت نهاية الحرب العالمية الثانية نذيرًا ببدء عصر القوتين العظميين: أمريكا والاتحاد السوفيتي. لقد تخيل البعض أنه بنهاية الحرب الباردة التي تلت نهاية الحرب الثانية سيطوي العالم صفحة من التاريخ لن تتكرر أبدًا. ربما صح هذا الاعتقاد إلى حد ما، ولكن حدثاً واحداً شهده القرن العشرون بخلاف الحربين العالميتين الأولى والثانية، ووصول الحزب الشيوعي بزعامة ماو إلى السلطة في الصين، وانهيار الاتحاد السوفيتي، كان علامة فارقة في القرن المنصرم وهو اندلاع الثورة الخمينية في إيران، حيث وصل قائدها على متن طائرة فرنسية وليس قطاراً ألمانياً على غرار لينين. إيران الثورة ما زالت محتفظة بالموقف نفسه الذي اتخذته منذ استيلائها على السفارة الأمريكية عام 1979، والذي اتسم بالعداوة والكراهية والتطرف واستعصى على الترويض. لقد نشر الاتحاد السوفيتي مبادئ تؤسس لثورات دامية بدعوى تخليص الشعوب من براثن الإمبريالية والنظم الرأسمالية التي تدعم بقاء الظلم إلى الأبد على حد زعم الشيوعيين الجدد، إلا أن حركات التحرير القائمة على المبادئ الماركسية اللينينية لم تتمخض سوى عن نظم دكتاتورية يرأسها الأمين العام للحزب الشيوعي، وفي ظلها أصبحت الحريات الفردية التي ألهمت الثوار قضايا ليست فقط مسكوتاً عنها، بل محظور الحديث فيها. وعلى غرار الثورة البلشفية، أسست الثورة الإيرانية لمبادئ ثورية عنيفة شبيهة بمبادئ ماركس ولينين، وقدمتها كحركة في ظاهرها تسعى إلى التحرير ولكن في باطنها تهدف إلى جمع الشعوب الإسلامية المجاورة كأتباع طائعين للعمامة الخمينية التي تطلعت لبسط ظلها على الشرق الأوسط، وهو الدور الذي زعم قادة الثورة أنه حق لهم وهم أهل له، فالثورة في الأساس تسعى لتحقيق هدفها وهو قيادة العالم الإسلامي، ومنذ بداياتها وحتى يومنا هذا تصارع بعزيمة لا تفتر لتحقيق هدفها معتمدة على إرث آية الله خميني الذي سعى إلى جعل الأيديولوجية الخمينية نقطة بداية لكل شيء، فالدستور وما له من مهام، وما به من تعريفات توضح طبيعة الجمهورية (الثورة)، ومصادر السلطة المتنوعة داخل هيكل النظام بما في ذلك السلطات المطلقة المخولة للمرشد الأعلى، والقواعد القانونية التي ضمنها خميني في كتابه «ولاية الفقيه»، ثم الطبيعة الثورية وأهدافها، وغايات الحركة التي جاءت بها؛ بما في ذلك الرغبة في الهيمنة على الشرق الأوسط وتبوء زعامة العالم الإسلامي، والانخراط في الدعم المباشر للإرهاب عن طريق الحرس الثوري وفيلق القدس وحزب الله والقاعدة وأنصار الله. ولأن هذا العالم يضيق بكل شيء حتى الاستقرار والازدهار، فقد حفل القرن الواحد والعشرون بأحداث ليست أقل أهمية من مثيلاتها في القرن السابق، وإن كانت أقل دموية، حيث كانت أحداث 11 سبتمبر 2001م التي أعلنت عن بداية القرن الأمريكي الجديد باحتلال أفغانستان ثم العراق، وامتدت سيطرة إيران على أربع عواصم عربية، ولتندلع الحرب الروسية الأوكرانية قبل عام من الآن، لتضع العالم على عتبات إحداثيات جيوستراتيجية جديدة. يكاد النظام العالمي يبلغ عنق الزجاجة، وحروب التنفيس التي ابتدعتها القوى العظمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبخاصة حروب الاتحاد السوفيتي وأمريكا والإرهاب لم تسهم في ترتيب الأوراق وإنما أوصلت العالم إلى حالة انفجار مرتقبة، فهل ستكون أوروبا مرة أخرى ميدان المفاصلة؟
مشاركة :