«ثمة مشكلة جوهرية تواجه أي كاتب (وأي قارئ) عند التعامل مع نص ما: نحن نعلم أننا حين نقرأ، نثبت إيمانا باللغة وبقدرتها المتبجحة على التواصل ونقل المعنى، وفي كل مرة نفتح كتابا فإننا نثق رغم تجاربنا السابقة كافة، بأن جوهر الكتاب سينتقل إلينا هذه المرة وفي كل مرة نبلغ فيها الصفحة الأخيرة من كتاب ما، ورغم آمالنا الشجاعة هذه، نصاب بإحباط يحدث ذلك خاصة حين نقرأ ما نسميه أدبا عظيما، وكما تقتضي الدقة في التسمية، إذ لا ترقى قدرتنا على فهم النص بكل مستوياته وتعقيداته، إلى مستوى رغباتنا وآمالنا ونضطر حينئذ إلى العودة إلى النص من جديد على أمل أن نفلح هذه المرة في تحقيق غايتنا لكننا لا نفعل ذلك لحسن حظ الأدب وحظنا أيضا، وليس بمقدور أجيال القراء أن تستفيد من الكتب، كما أن إخفاق اللغة في إتمام الوصل يمنح الكتب إثراء لا محدودا على أن إدراكنا هذا الثراء رهن بإمكانيتنا الفردية. حيث إنه لم يسبق لقارئ ما نفذ إلى أعماق الكتاب. « (كتاب الفضول للكاتب ألبرتو مانغويل).في هذا المقطع المطول للكاتب الكبير ألبيرتو يوضح كيف أن الكتب العميقة والقوية والرائعة تستعصي على الأجيال (وليس على جيل واحد فحسب) في إدراكها ويعتبر هذا التحدي الكبير ليس عيبا بل ميزة نسبية للقدرة الإنسانية على الفهم والوعي والإدراك للمكتوب، وبرغم القدرات الفردية للناس المتفاوتة من علماء وحتى أصغر قارئ إلا أنه ورغم هذا كله، فإن المعنى العميق أسير تجربة الكاتب الذي يحاول – من خلال اللغة – أن يخرج المعنى كاملا وقد يفشل، ومن ثم يفشل القارئ أو القراء في استكشافها وهذا معنى عميق يدركه الكبار مثل ألبيرتو هذا صاحب الكتاب الشهير «تاريخ القراءة».هذا المقاربة -وكمثال منفرد ويتبعه أمثله أخرى وقضايا أخرى يستبطنها كل عالم وأديب- تقودنا إلى كيف تنقاد بعض الدول والشعوب والأفراد للقراءة بلغة أخرى، فإن تعثر اصطياد المعنى كاملا في اللغة نفسها فكيف يكون هذا بلغة أخرى وبهذه الطريقة سيكون صاحب اللغة الثانية تابعا في كل الأحوال.أدركت ألمانيا واليابان ودول اللغة الإسبانية العريضة هذه الإشكالية فاشتغلت الترجمة القوية التي تصطاد المعنى بكل حرفنة وقوة لا تبتعد عن المعنى الأصلي كثيرا، بل وعلمت أبناءها ومن ثم أجيالها العلوم بلغة الأم حتى يتم اصطياد المعنى كاملا (أو على الأقل أغلب المعنى وأعمقه) وحتى لا يكونوا أسرى للدرجة الثانية في اللغة. وهذا ما جعل تلك الدول تتقدم بسرعة أكبر، لأن كمية المحتوى أكثر وأقوى وبلغة محلية تقوى على الإحاطة فيه.غزو اللغة الإنجليزية للدول والأفراد والشعوب وبطريقة الهزيمة النفسية خلق مستوى تسطيح كبير للمعنى، وهذه بعض الأمثلة التي تكشف هذا المستوى: يكتب روائي عربي رواية متأثرا بترجمات الروايات عن الإنجليزية وكأنه يترجم روايته العربية إلى العربية بنكهة المترجم العربي للنص العربي والإسباني، تغزو المحلات والمتاجر رؤية سطحية بأسماء إنجليزية لمتاجر تقدم منتجات محلية أو عربية أو إقليمية تعبر بركاكة فاضحة عن أن الهدف هو كلمة إنجليزية، يتداول الناس كلمات إنجليزية مشوهه عن النص الإنجليزي أثناء حديثهم بالعربي بين بعضهم البعض لو سمعها الإنجليز أنفسهم لم يفهموها، يتفاخر الأهالي بكلمات أطفالهم الإنجليزية المهزومين أمام التطبيقات الغربية التي غزت اللغة والعقل معا![email protected]
مشاركة :