تولستوي بين الدين والعقل والفلسفة

  • 12/23/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحوي هذا الكتاب "ليف تولستوي.. في الدين والعقل والفلسفة" مجموعة منتقاة من مقالات وخطابات تولستوي مترجمة عن الروسية مباشرة، تتمحور حول رؤيته للدين وعلاقة المجتمع ومثقفيه وفلاسفته به. وقدم له للكاتب والمترجم يوسف نبيل بقراءة كشف فيها عن تحولات تولستوي مؤكدا أنه بعد تبلور أزمته الروحية العنيفة أخذت كتاباته تنحو نحو البساطة والوضوح أكثر فأكثر بشكل يصعب معه إساءة فهمها أو تفسيرها، فهي ليست بحاجة إلى تفسير. وأشار إلى أن تولستوي صمم في كثير من كتاباته الأخيرة على أن تكون بسيطة بشكل متناه، ليتسنى للفلاحين البسطاء قراءتها بعد أن شعر أن غالبية الشعب الروسي لا يمكنه قراءة الأعمال الأدبية. يرى كتاب تولستوي الصادر عن دار آفاق أن الإيمان هو معرفة الإنسان للعلاقة التي تربط الإنسان بالعالم اللانهائي، والتي ينبع منها الاتجاه الذي تسير سلوكياته وفقه، لذلك الإيمان الحقيقي لا يمكنه ألا يكون عقلانيا أو لا يتفق مع المعارف الإنسانية الموجودة، ولا يمكن أن تكون سماته خارقة للطبيعة أو سخيفة كما يفترض البعض وكما عبر عنها أحد آباء الكنيسة حين قال "أؤمن لأنه مناف للعقل. بل على النقيض من ذلك، فتأكيدات الايمان الحقيقي ـ على الرغم من أنه لا يمكن إثباتها ـ فلا يمكن أبدا أن تحوي بداخلها أمرا منافيا للعقل أو غير متفق مع معارف الناس، بل إنها تشرح دائما أن الحياة دون إيمان ستكون متناقضة ولا عقلانية. ويضرب تولستوي مثلا باليهودي القديم الذي كان يؤمن بوجود كائن أعلى أبدي كلي القدرة قد شكل السماء والأرض والحيوانات والإنسان.. إلخ، وقد تعهد بحماية شعبه إن سار حسب ناموسه، ولم يؤمن بشيء غير عقلاني ولا يتفق مع معارفه، بل على العكس فقد شرح له هذا الإيمان العديد من الأمور التي تبدو دونه ظواهر غير مفهومة بالحياة. الأمر ذاته مع الهندوسي الذي يؤمن بأن نفوسنا قد سكنت من قبل أجساد حيوانات، وأنه على حسب صلاح أو طلاح حياتنا تنتقل إلى أجساد حيوانات أخرى أرقى أو أدنى، ويشرح له إيمانه هذا عديدا من الأمور التي من دونها يجد أمامه كثيرا من ظواهر الحياة غير مفهومة. والأمر ذاته مع إنسان يعتبر الحياة شرا وأن هدفه في هذه الحياة هو تهدئة الشهوات والقضاء عليها. ما من شيء يناقض العقل في إيمانه هذا بل على العكس فإنه يجعل منظوره للعالم أكثر عقلانية منه دون هذا الإيمان. نفس الأمر مع المسيحي الحقيقي الذي يؤمن بأن الله أب روحي لكافة البشر وأن الإنسان يصل إلى الخير الأعظم عندما يدرك بنوته لله وأخوة البشر جميعا. ويلفت تولستوي إلى أن كل هذه الصيغ من الإيمان وإن لم يكن باستطاعة أحد أن يثبتها ليست مناقضة للعقل في حد ذاتها، بل على العكس فإنها تمنح صاحبها فهما أكثر عقلانية لظواهر الحياة المختلفة التي تبدو غير عقلانية ومتناقضة دون هذه الصيغ من الإيمان. بالإضافة لذلك فإنها جميعا بينما تحدد علاقة الإنسان بالعالم فإنها تلزمه بنمط معين من السلوك يتوافق مع هذه الرؤية، ولذلك أسس التعليم الديني لموقف غير عقلاني لا يفسر شيئا بل يربك أكثر من فهم الحياة، فإنه في هذه الحالة ليس إيمانا بل تحريف له قد فقد السمات الرئيسة للإيمان الحقيقي. لا يقتصر الأمر على أن هذا النوع من الإيمان ليس موجودا عند معاصرينا لكنهم أيضا لا يعلمون شيئا عن ماهيته ويعنون بكلمة إيمان إما ما ينطقونه بألسنتهم وقدمه له الناس على أنه الإيمان أو تنفيذ الشعائر التي تساعد على تحقيق أهدافهم كما تعلم الكنيسة المسيحية. ويشير تولستوي إلى أن الإنسان الذي يرى جوهر علاقته بالعالم يتمثل في الحصول على أكبر قدر ممكن من المنفعة الشخصية ـ بغض النظر عن حديثه وتظاهره بأنه يرى الحياة الأخلاقية الحقة تلك التي يعيشها المرء من أجل الأسرة أو المجتمع أو الدولة ـ فهو يتظاهر بذلك أمام الناس ويخدعهم، أما الحافز الحقيقي لكافة أفعاله فسيظل منفعته الشخصية فقط، وهذا يعني أنه عندما يضطر إلى الاختيار فلن يضحي بمنفعته الخاصة من أجل الأسرة أو الدولة ولا حتى من أجل تنفيذ إرادة الله، فهم جميعا سواء أمامه، والسبب في ذلك أنه يرى معنى حياته في منفعته الشخصية فقط، وهو ليس بمقدوره أن يفعل شيئا غير ذلك طالما مفهوم علاقته بالعالم كما هو. ويضيف الأمر ذاته مع الإنسان الذي تتمحور علاقته بالعالم في خدمة أسرته ـ الأمر الذي يظهر بوضوح جدا في النساء ـ لأي جنس أو شعب معين أو حتى الوطن، كما يظهر عند أمة أو مجموعة سياسية مقموعة إبان الحرب، حتى وإن أعلن نفسه مسيحيا، فستكون أخلاقه دوما مرتبطة بمصالح الأسرة أو الشعب أو الدولة، ولن تشبه الأخلاق المسيحية في شيء، وعندما يضطر إلى الاختيار بين المنفعة الاجتماعية للأسرة أو الدولة وبين تنفيذ إرادة الله فسيكون مضطرا إلى اختيار منفعة مجموعة من الأشخاص الذين تشكل منفعتهم سبب وجوده. هكذا الأمر مع الإنسان الذي يرى علاقته بالعالم تتأسس على تنفيذ إرادة خالقه، فمهما يحاولون إقناعه بأن يقوم بأفعال تصب في صالح منفتعته الشخصية أو الأسرة أو الجنس أو الدولة أو البشر أجمعين، تناقض الارادة العليا المطبوعة بداخله في عقله ومشاعر الحب، فسيضحي دوما بمصالحه الشخصية ومصالح الأسرة أو الجنس أو الوطن أو البشر أجمعين حتى لا يتراجع عن تنفيذ إرادة من أرسله إلى العالم، فمعنى حياته بأكملها يتمثل في تحقيق هذه الإرادة. ويؤكد تولستوي أنه لا يمكن أن تتأسس الأخلاق بمعزل عن الدين، ليس فقط لأنها تنتج عنه وعن مفهوم العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم، بل أيضا لأنها تتضمن بداخلها روح الدين ومقتضياته. ويقول "تشكل كل ديانة محاولة للإجابة عن سؤال: ما معنى حياتي؟ وتتضمن الإجابة الدينية في داخلها مطالب أخلاقية معينة قد تسبق أو تلحق بتفسير معنى الحياة. قد تكون الإجابة عن معنى الحياة كالآتي: يتأسس معنى الحياة على المنفعة الشخصية، لذا استغل كل ما يروق لك في الحياة. وقد تكون الإجابة: يتمثل معنى الحياة في منفعة مجموعة من الأشخاص، لذا اخدم هذه المجموعة بكل قوتك. وقد تكون الإجابة: معنى الحياة يتمثل في أن تحقق إرادة من أرسلك إلى العالم، لذا اسع بكل ما لديك من قوة إلى معرفة إرادته وتحقيقها. من الممكن أن نجيب عن السؤال بالآتي: معنى الحياة في المتعة الخاصة أو في خدمة مجموعة من الأشخاص تعتبر عضوا في مجموعتهم أو معنى الحياة في خدمة الله". ويوضح تولستوي أن تفسير الدين لمعنى الحياة بداخله النموذج الأخلاقي، لذلك لا يمكن أن تتأسس بمعزل عن الدين. هذه الحقيقة جلية في المحاولات الفلسفية التي قام بها بعض الفلاسفة غير المسيحيين كي يؤسسوا نظاما أخلاقيا ساميا من فلسفاتهم. يعتقد هؤلاء الفلاسفة أن الأخلاقيات المسيحية ضرورية، وأنه لا يمكن العيش دونها، ويحاولون تقديم الأمر كما لو أن الأخلاقيات المسيحية تنبع من فلسفاتهم الوثنية أو الاجتماعية. يحاولون القيام بذلك ولكن هذه المحاولة تبدو بشكل أوضح للآخرين غير موفقة، فلا يقتصر الأمر على أن تلك الأخلاقيات لا تبدو نابعة من الفلسفات، بل تبدو أيضا مناقضة لفلسفات المنفعة الشخصية أو التحرر من المعاناة الشخصية أو حتى الفلسفات الاجتماعية. وينبه تولستوي إلى أن الدين ليس إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصلوات والطقوس العبثية الشهيرة، ولا أيضا بقايا الخرافات الهمجية القديمة كما يعتقد العلماء، والتي ليست لديها أي معنى في حياتنا الآن، بل يشكل الدين علاقة الإنسان بالله القابلة للتطوير بشكل يتفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانية للأمام صوب الهدف المنشود.   محمد الحمامصي

مشاركة :