سجل الاقتصاد الصيني نموا نسبته 3 في المائة في عام 2022 على الرغم من الضغوط الهبوطية، ليتجاوز 17 تريليون دولار أمريكي، حسبما ذكرت الهيئة الوطنية للإحصاء يوم الثلاثاء. بذلك تقود الصين العالم في النمو بين الاقتصادات الرئيسية. وهذا الأداء المرن يعكس مرة أخرى ما قاله جورج فتكه، رئيس غرفة التجارة التابعة للاتحاد الأوروبي في الصين ذات يوم بأن: الاقتصاد الصيني لديه جين انتعاش. منذ بداية هذا العام، أظهر الاقتصاد الصيني انتعاشا وحيوية قويين. ومع رفع المؤسسات الدولية لتوقعاتها للنمو في الصين، زادت الشركات متعددة الجنسيات من استثماراتها في الصين، كما أن أسعار السلع الأساسية العالمية في طريقها إلى الارتفاع مدفوعة بانتعاش الطلب المحلي في الصين. وقد يتساءل المرء لماذا يتمكن الاقتصاد الصيني دوما من استعادة عافيته. إن التنسيق الفعال للسياسات يأتي من بين بعض العوامل الرئيسية التي تساعد على جعل ذلك ممكنا. بفضل المزايا المؤسسية للصين، أصبحت بكين قادرة على توفير عناصر الاستقرار للتشغيل الفعال للسوق بناء على تطور المشهد الاقتصادي بالبلاد. ومن جانبه، قال فيتور غاسبار، مدير إدارة الشؤون المالية بصندوق النقد الدولي، إن مستوى الأسعار الإجمالي في الصين منخفض نسبيا، ولا تزال الصين تتمتع بحيز سياساتي واسع. على سبيل المثال، في الوقت الذي تستطيع فيه السياسات النقدية للصين أن تضمن وفرة معقولة من السيولة، فإنها تستطيع أيضا أن تطبيق سياسات داعمة، مثل توسيع حوافز الضرائب والرسوم المقدمة للشركات الصغيرة ومتناهية الصغر، والشركات التي تواجه الجفاف المالي، فضلا عن التنمية الخضراء والتقدم التكنولوجي. وأشار ويتشاي كينتشونغ تشوي، النائب الأول لرئيس بنك كاسيكورنبانك التايلاندي الرائد، إلى أن الاقتصاد الصيني مرن وسياساته لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية منسقة للغاية وطويلة الأجل بطبيعتها. ويرى آندي روثمان، الخبير الاستراتيجي في مجال الاستثمار بشركة ماثيوز آسيا، أنه "مع ترجيح أن تظل بكين الحكومة الرئيسية الوحيدة المشاركة في تخفيف السياسات المالية والنقدية بشكل جاد -- وهي سياسات يعمل قسم كبير من العالم على تشديدها -- فإن الصين ربما تغدو مرة أخرى المحرك للنمو الاقتصادي العالمي". وتشكل السوق الاستهلاكية النشطة في الصين عاملا رئيسيا آخر. ويرتكز السوق على عدد سكان يبلغ 1.4 مليار نسمة، ومجموعة آخذة في التوسع من ذوي الدخل المتوسط تتجاوز 400 مليون نسمة، ومجموعة من التدابير الداعمة للطلب المحلي، والتي شوهدت بشكل خاص في إطار الاستجابة المثلى لكوفيد-19 في البلاد، فضلا عن استراتيجية نمو عالية الجودة تعطي الأولوية للابتكار. وقالت كريستين بنغ، رئيسة جريتر تشاينا لأبحاث المستهلك في البنك السويسري العملاق ((يو بي إس))، إنه لأول مرة منذ تفشي الجائحة، سيتجاوز نمو الاستهلاك في الصين هذا العام التوسع الاقتصادي في البلاد، ومن المرجح أن ينفق المستهلكون أكثر على الخدمات مع استأنفهم أنشطة تناول الطعام في الخارج والسفر. ففي يناير، أشارت تقديرات ((بنك أوف أمريكا ))إلى أن الأسر الصينية سوف تطلق العنان لتريليون يوان (145 مليار دولار) من مدخراتها الفائضة في عام 2023. خلال عطلة عيد الربيع الصينية التي استمرت اسبوعا وانتهت في 27 يناير، بلغت إيرادات السياحة الداخلية 375.8 مليار يوان، بزيادة 30 في المائة عن العطلة في العام الماضي، حسبما أفادت وزارة الثقافة والسياحة الصينية. وإلى جانب تطبيق المزيد من السياسات الرامية إلى تعزيز قدرة الناس على الإنفاق، فإن توفير مساكن أفضل ومركبات عاملة بالطاقة الجديدة ورعاية للمسنين، فضلا عن أشكال أخرى من الطلبات الاستهلاكية الجديدة، ستزيد من إطلاق العنان لإمكانات الاستهلاك. فقد حدد تقرير ماكينزي للمستهلك في الصين لعام 2023 "الطبقة المتوسطة المتزايدة باستمرار" و"جذب المستهلك" كاتجاهين من شأنهما إعادة تحديد ملامح السوق الاستهلاكية في الصين هذا العام. أما العامل الآخر الذي يجعل الاقتصاد الصيني مختلفا عن غيره فهو بيئته الصناعية الفريدة. حيث يضم النظام الصناعي الأكثر اكتمالا في العالم، وسلسلة إمداد مستقرة وآمنة، وشبكة بنية تحتية عالية الترابط، ما يمكن المؤسسات المحلية والأجنبية في الصين من التمتع بمزايا لا مثيل لها في التكلفة والكفاءة والابتكار. ووفقا للإحصاءات، ازداد الاستخدام الفعلي للاستثمارات الأجنبية في صناعة التكنولوجيا الفائقة بالصين في عام 2022 بنسبة 30.9 في المائة بالقيمة الدولارية مقارنة بالعام السابق. ومع تعزيز الانتعاش الاقتصادي في الصين، أصبح أحد الخيارات الإستراتيجية العالمية لدى عدد متزايد من الشركات متعددة الجنسيات يتمثل في التوجه إلى نقل سلسلة التوريد لديها إلى الصين. في 28 يناير، أعلنت شركة ((بروكتر أند غامبل)) الأمريكية متعددة الجنسيات للسلع الاستهلاكية قرارها بنقل سلسلة توريد المنتجات من قاعدتها الحالية في أوروبا إلى مقاطعة قوانغدونغ بجنوب الصين. وليس من قبيل المصادفة أن أعلنت شركة تسلا الأمريكية لصناعة السيارات الكهربائية عن هدف ملموس يتمثل في إنتاج حوالي 1.8 مليون سيارة في عام 2023. ويبدو أن مصنعها جيجا فاكتوري في شانغهاي وغيره من الشركات الداعمة ذات الصلة هي السبب الذي يجعل شركة تسلا تعلن عن مثل هذا الهدف الطموح. بالإضافة إلى ذلك، تستكشف الصين باستمرار، من خلال إصلاحها الهيكلي لجانب العرض وتنميتها الاقتصادية عالية الجودة، أنماطا جديدة للتنمية الصناعية. فالسوق الموحدة الضخمة في الصين وسلسلة صناعتها التحويلية مهدت الطريق لتطبيق التكنولوجيا الجديدة وتكاملها وتكرار استخدامها. وذكر مايكل كيرش، الرئيس والمدير التنفيذي لشركة بورش تشاينا، أن وجود بورش في الصين يتجاوز بكثير كونه وحدة مبيعات، حيث تعد الصين أيضا قوة إبتكارية لها، مما يساعد على تحديد الاتجاهات الهامة ذات التأثير الضخم على الاقتصاد العالمي. وأشارت بعض وسائل الإعلام الأجنبية، بما فيها ((ذا ديبلومات))، إلى أن الصين حققت إنجازات ملحوظة في المركبات الكهربائية والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا الفضاء، وأن التنمية عالية الجودة تعزز بشكل كبير الابتكارات واستدامة النمو الاقتصادي للصين. مما لا شك فيه أن الانفتاح يشكل أيضا عاملا رئيسيا في نجاح الصين على الصعيد الاقتصادي. وتواصل الصين تعزيز الانفتاح رفيع المستوى على العالم الخارجي وتحقيق التكامل التام بين الأسواق والموارد المحلية والدولية. وهذا يخلق فرصا جديدة للبلدان في تعاونها الاقتصادي مع الصين. بعد مرور عام على تنفيذ الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، نمت التجارة الخارجية للصين مع الأعضاء الآخرين في الاتفاقية بنسبة 7.5 في المائة على أساس سنوي لتصل إلى 12.95 تريليون يوان (1.93 تريليون دولار) في عام 2022، حسبما أظهرت الإحصاءات الصادرة عن الهيئة العامة للجمارك الصينية. يصادف هذا العام الذكرى العاشرة لإطلاق مبادرة الحزام والطريق. خلال العقد الماضي، وقعت الصين اتفاقيات تعاون مع 151 دولة و32 منظمة دولية، مع ارتفاع حجم تجارتها مع الدول الواقعة على طول الحزام والطريق بنسبة 19.4 في المائة في عام 2022 عن العام السابق. "إننا نتوقع مع إعادة فتح الصين، حدوث انتعاش كبير في الطلب بين المستهلكين الصينيين. ولأن العديد من الدول في المنطقة لديها تبادلات تجارية مع الصين، فإن هذا سيفيد صادراتها إلى الصين. وهذا من شأنه أن يفيد جميع سلاسل القيمة التي ترتبط بها الصين"، هكذا ذكرت وسائل الإعلام نقلا عن ألبرت بارك، كبير خبراء الاقتصاد في بنك التنمية الآسيوي. ومن ناحية أخرى، تلتزم الصين أيضا بتحسين بيئة الأعمال لديها، وتحقيق التنسيق بين أسواقها الداخلية والخارجية وتقاسم عوامل الإنتاج والموارد على نحو أكثر كفاءة. فقد توسع الاستثمار الأجنبي المباشر قيد الاستخدام الفعلي في البر الرئيسي الصيني، بنسبة 14.5 في المائة على أساس سنوي ليصل إلى 127.69 مليار يوان في يناير الماضي، حسبما ذكرت وزارة التجارة يوم الاثنين. ومن حيث القيمة بالدولار الأمريكي، ارتفع تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 10 في المائة على أساس سنوي ليبلغ 19.02 مليار دولار أمريكي. وتحت هذه البيانات يكمن الدعم السياساتي للانفتاح المؤسسي. إذ نفذت الصين في عام 2022 بشكل كامل القائمة السلبية المختصرة للاستثمار الأجنبي، ووسعت كتالوج الاستثمار المشجع، وأضافت المزيد من المدن إلى البرنامج التجريبي لفتح قطاع الخدمات. ولفت جو نجاي، الشريك الإداري لماكينزي جريتر تشاينا، إلى أنه "بينما يبحث المستثمرون العالميون والشركات العالمية عن النمو، يتساءل الجميع: أين الصين القادمة؟" مضيفا بقوله إنه "إذا كنت تبحث عن النمو، فالجواب بسيط جدا. الصين القادمة هي الصين".
مشاركة :