دعونا نتفقُ ابتداءً على أن “قمة العقبة” سجلت اهتمامًا أمريكيًا في الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واستدارة أمريكية ناحية قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أيضًا، بعد أن غابت الإدارات الأمريكية طويلًا، وانشغلت أو أشغلت نفسها بقضايا داخلية وتدخلات خارجية أكثر فائدة لها، لكن هذه الاستدارة لم تكن إلا لمصلحة إسرائيل وعلى حساب الفلسطينيين، فما كان لـ “إدارة بايدين” أن تتحرك لـ “خفض التوتر” في الضفة الغربية لولا الأزمة السياسية التي تواجهها إسرائيل، والمواجهة المفتوحة التي قد تمسّ بأمنها وتهدد مصالحها. ولم يكن التدخل الأمريكي بطبيعة الحال للتأكيد على حياد الوسيط ونزاهته، أو لتكريس مبدأ “حل الدولتين” وتطبيقه ميدانيًا على الأرض، ذلك أن “مؤتمر العقبة” لا يرتكز على أساسٍ سياسي، ولم يعتمد خططًا للتسوية السياسية، وإنما لتحقيق أهداف مرحلية ومؤقتة عنوانها “خفض التوتر”، والوصول إلى تهدئة – وفق الخطة الأمريكية – توظّفها إسرائيل لمصلحتها ولا تلتزم بها كما في كل جولات المواجهة في السنوات الأخيرة، ودائمًا بمساعدة الإدارة الأمريكية ودعمها عبر الضغط على الرسمية الفلسطينية، مثلما امتدت وساطتها مؤخرًا وباتجاهات معاكسة لحماية إسرائيل بسحب “مشروع قرار مجلس الأمن” الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي، واستبداله بـ “بيان رئاسي” رمزي وغير ملزم. إن خلاصة تفاهمات القمة الخماسية هي حصيلة ما تجنيه إسرائيل وتحققه لمصلحتها وبدعم أمريكي. ويكفي أن نتأمل بحيادية مخرجات قمة العقبة التي أحدثت جدلًا فلسطينيًا واسعًا قبل انعقادها وبعده؛ لنتبين حقيقة الانحياز الأمريكي ومستوى استجابة إسرائيل لشروط التهدئة واستحقاقاتها، فمن ناحية ساوى “البيان الختامي للقمة” بين الفلسطينيين والإسرائيليين في مسألة “التصعيد والعنف”، في حين أن “العنف” موصول أساسًا بسياسات الحكومة الإسرائيلية، وسلوك قواتها وجيشها في سائر الأرض الفلسطينية المحتلة، ثم إن “البيان” لم يحدّد الكيفية والآليات لضمان “خفض التصعيد ومنع العنف”، فإن تولت الحكومة الإسرائيلية هذه المهمة، سيمثّل ذلك تفويضًا لها لقمع الفلسطينيين، في وقت لا تمتلك السلطة الفلسطينية السيطرة الفعلية والميدانية في الضفة وغزة والقدس، ولا تمتلك السيطرة على المجموعات المقاومة في الضفة الغربية. ومن ناحية ثانية، كان ينبغي أن تنحصر رسالة “البيان” بشأن المطالبة بالحفاظ على الأماكن المقدسة في إسرائيل وحدها؛ فهي الجهة الوحيدة التي تقوم بإجراءات لتقويض مبدأ الحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة، وتعتدي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس. أما موضوع “الالتزام بالاتفاقيات السابقة” فهو متصل كليًا بالحكومة الإسرائيلية التي لم تلتزم بهذه الاتفاقيات، والتي انهت اتفاقية أوسلو وقوضتها من أولها إلى آخرها، في حين أن السلطة الفلسطينية تؤمن إيمانًا مطلقًا بمنطق المفاوضات والتسوية السياسية كخيارٍ وحيد لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. الأكثر سوءًا من ذلك هو البند المتعلق بالتزام إسرائيل “بوقف مناقشة إنشاء أي وحدات استيطانية جديدة لمدة 4 أشهر، وعدم إقرار أيّ بؤر استيطانية جديدة لمدة 6 أشهر”، فقد نسفت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بعد اختتام القمة مباشرة هذا البند، الذي يتعارض في أصوله مع أهداف ومنطلقات الحكومة الإسرائيلية، بما هي حكومة استيطان وتهويد واحلال، كما أظهرتها إجراءاتها الميدانية ووثيقة الخطوط العريضة التي تأسست عليها. وفوق هذا كله، تحول الرد الإسرائيلي على “قمة العقبة” إلى فعل وسلوك ميداني على الأرض وبعد ساعات من اختتام أعمالها، باقتحام المستوطنين لبلدة حوارة بنابلس وحرق منازل ومركبات المواطنين فيها، والاعتداء على مدينة الخليل، واقتحام المستوطنين لباب المغاربة في المسجد الأقصى تحت حماية وتأمين شرطي، وهدم منزل في بلدة جبل المكبر جنوب شرق مدينة القدس، وغيرها من الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين. الشاهد أن إسرائيل لم تلتزم بتفاهمات قمة العقبة، وهي غير معنية أساسًا بالتفاهم مع الفلسطينيين، وأن الضغوط الأمريكية لمصلحة إسرائيل ولفائدتها وعلى حساب الفلسطينيين.. هذا هو الذي حققته العقبة!
مشاركة :